إسطنبول (زمان عربي) – وُلد ديامندي كيتشه أوغلو الذي اشتهر بلقب “يمان ديده” (الشيخ العجيب) في بلدة طلاس التابعة لمدينة قيصري سنة 1877 لأبوين مسيحيين أرثوذكسيين. فأبوه اسمه يوفان وكان يعمل في تجارة الخيوط والقطن أما أمه فهي أفوراني.
درس” يمان ديده” الابتدائية في مدرسة أرثوذكسية. ومن ثم التحق بمدرسة الرشدية (الإعدادية). ورغم كونه مسيحيا روميا إلا أنه كان يحضر الدروس الدينية، ويستمع بكل قلبه إلى ما يشرحه معلمه من محاسن الإسلام. وأبدى اهتماما كبيرا باللغة الفارسية، ولا سيما بأشعار المثنوي (لمولانا جلال الدين الرومي)، وقصائد الأدب التركي الكلاسيكي.وأفاد بأنه بدأ يحترق بنار الحب تجاه الإسلام منذ ذلك الوقت.
وقد لقبه أساتذته وزملاؤه بـ”مللا (الأستاذ) يامندي” لتفوقه في دروس اللغة العربية.
وقد وصف تعرفه إلى مولانا (جلال الدين الرومي) بقوله: “عندما كنت في منتصف العام الدراسي في الصف الثاني الإعدادي، كتب مدرس اللغة الفارسية أبياتا شعرية على السبورة، وكانت هذه الأبيات كافية لإشعال نار المحبة تجاه الإسلام في قلبي. وما زلت أذكر تلك الأبيات وكأنني أدرسها اليوم من جديد، وهي أولى أبيات المثنوي.
وقد أعجبت بالاسم “مولانا” الذي كُتب على السبورة. كما أن الأبيات التي قُرئت هزت كياني وأعماقي. ومنذ ذلك الحين بدأت أتلظى بنار لذيذة. حيث أحرقتني بشدة، ولكن النيران التي كانت لذيذة كقبلة الأم قد ملأت عالمي الداخلي”.
وكان ديامندي يحفظ الآيات والأحاديث في الدروس الدينية، ويتلقى دروسا خاصة من أساتذة العربية والفارسية، وقد أنهى دراسته الثانوية بالدرجة الأولى. ومن ثم ذهب إلى إسطنبول لدراسة الحقوق (القانون) في الجامعة.
وزادت جذوة عشقه المحمدي من خلال الأجواء الروحانية في إسطنبول، وعن طريق شخصيات محترمة تعرف إليها فيها. وزاد حبه للإسلام تلقائيا ودون أن يشعر بذلك يوما بعد يوم. ونمت براعم الإيمان في قلبه لتصبح أزهاره ثمارا. وأنهى دراسة الحقوق. وبدأ يمارس المحاماة في إسطنبول. وبدأ بتدريس الأدب في المدارس الأجنبية، ولا سيما المدارس الفرنسية للبنات.
وقد حاضر في كثير من المدن التركية حول مولانا والمثنوي.
وذكر أنه اهتدى إلى الحق، وأنه حتى لو لم ينطق بالشهادتين إلا أنه آمن بهما في قلبه منذ أمد بعيد، وبدأ بالعيش كمسلم منزوٍ.
ولم تكن زوجته وابنته على علم بأنه اهتدى للإسلام. فكان يصلي في المساجد الصغيرة في المناطق النائية، وكان يصوم خلسة في شهر رمضان. وقد وصف تلك الأيام قائلا:
“كنتُ أصلي خلسةً، وأصوم رمضان خلسةً دون القيام للسحور كي لا أسبب اضطرابا لزوجتي وابنتي. وقد صمتُ بلا سحور وأحيانا بلا إفطار لمدة 40 سنة. ولم تشعر عائلتي بذلك. وربما لا أحد يعلم بمساجد إسطنبول النائية كما أعلمها أنا. وحين كُنتُ أستمر بهذا التستر على إيماني، جرفتني موجةٌ عملاقة كجبال الهيمالايا. وقد أخذتني من نفسي كما قال يونس أمره (الشاعر الشعبي التركي). وقد وصل بي الإيمان إلى درجة أني لو أُلقيتُ في نار في بلد من البلدان التي يتعرض فيها المسلمون للتعذيب، لشعرت بلذة الاحتراق”.
وكان يوم 15 فبراير 1942 حين أصبح في 55 من العمر، نقطة تحول في حياته. ففي ذلك اليوم بدل اسمه ودينه بشكل رسمي. حيث أصبح اسمه “محمد عبد القادر كيتشه أوغلو”. وبذلك أعلن عن هويته التي أخفاها لسنوات عديدة، ولكن بدأت المشاكل بالنسبة لعائلته آنذاك.
ففي إحدى الليالي صارح زوجته وابنته باعتناقه الإسلام. فبدأت المشاكل في بيته الكائن بحي أوسكودار بإسطنبول. وسرعان ما وصل الخبر إلى البطريركية. وضغط الكهنة عليه بأن خيَّروه بين العودة إلى المسيحية أو تطليق زوجته. واتخذ قرارا صعبا في ليلة باردة من ليالي فبراير، حيث قال لعائلته: “إن ما نعيشه هو ثمن العشق. لا تحزنا أبدا. فالعشق لا يخلو من المصائب”. ثم أخذ معطفه وخرج من البيت.
وبعد ذلك بدأ بتدريس مخزونه العلمي لطلابه في مدرسة الأئمة والخطباء، والمعهد الإسلامي العالي.
ومن ثم تزوج بالمعلمة المتقاعدة من تدريس المرحلة الابتدائية السيدة خديجة هانم التي تعرف إليها عن طريق أصحابه.
وظل حتى وفاته يتصل بزوجته السابقة وابنته ويقدم لهما الهدايا ويكرمهما.
وقد مرض كثيرا في 1962، ومع ذلك كان يذهب من بيته في حي آجي بادم إلى المعهد الإسلامي العالي في حي باغلار باشي، لإعطاء الدروس. وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى في يوم الخميس 3 مايو 1962. ودُفن في مقبرة كاراجا أحمد بعد أن حُمل نعشه على أكتاف تلاميذه والعديد من محبيه.
وكان يامان ديده قد درَّس الفارسية لسنوات عديدة في مدرسة الأئمة والخطباء، والمعهد الإسلامي العالي. واليوم ثمة العديد من الأشخاص البارزين في اختصاصاتهم يعرفون مولانا من خلال دروس يامان ديده الذي كان يتحدث عن مولانا في دروسه وهو يجهش بالبكاء. ومن هؤلاء أحمد كهرمان الذي وصف عشق يمان ديده للنبي صلى الله عليه وسلم قائلا: “كان يامان ديده يدرسنا الفارسية في العام الدراسي 1959-1960. وذات يوم خرجنا من المدرسة بعد انتهاء الدروس. وكنتُ في طريقي إلى حي تقسيم. وكان هناك مسجد بجوار القنصلية الألمانية. فرأيت يامان ديده مستندا إلى جدار المسجد وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة. فقد كان مرهقا ورأسه مائل إلى الأمام باتجاه اليمين. فأسرعت إليه وقلتُ له: “هل تشكو من شيء يا أستاذي؟ هل يؤلمك شيء؟ هل أنت مريض؟ فوجدته يبكي. فسألته: هل أصابك مكروه؟ فقال بصوت خافت جدا: لا يا بني. كلما أتذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تخور قواي ولا أتمكن من الوقوف على قدميَّ. فإما أن أستند إلى مكان ما، أو أن أجلس”.
وكان يامان ديده يستخدم الرسائل للتواصل مع محيطه. وكان يراسل طلابه والشباب كما يراسل كبار المفكرين والفنانين. حيث يعمد في عموم رسائله إلى الحديث عن الحق والحقيقة. وقد أوصى طلابه بالصلاة في إحدى رسائله، فقال كلاما يدل على علو روحه: “ما أعظم نعمة الصلاة يا رب! ليتني أتوضأ بدمي أو بدموعي، وليتني أصلي على صفيحة ساخنة، وأنا أحترق وأتلظى. فيا أبنائي، عندما تبدؤون بالصلاة ستزول الأحزان من قلوبكم إن كانت فيكم شيء منه. وستنضح كل ذرة من أجسادكم بالسرور والسعادة”.
وفي رسالة ليمان ديده المكتوي بعشق الخدمة التي يقدمها للطلاب، يعبر عن شوق المعلم حيث يقول: “إذا ما اكتوت روح الإنسان بالعشق الإلهي، تصبح خدمة عباد الله بل تقديم ما يمكن من المساعدة لأي مخلوق، نوعا من العبادة. أنا أرغب بمنح كل ما أستطيع منحه من نتاجي المتواضع، لطلابي الذين يفتحون لي قلوبهم وأرواحهم وهم يأملون مني غذاءً روحيا، كما تفتح الفراخ أفواهها لتلقي الطعام عندما تأتي أمها إلى العش. كما أودُّ تفريغ روحي في أرواحهم. بل إنني أحترق بهذا التمني”.
وكان يامان ديده ذا ارتباط وثيق بمولانا جلال الدين الرومي. فقد ظل يزور قبره في قونيا ويحضر أمسيَّة “شبي عروس”(يعني ليلة العرس بالفارسية وكان الرومي يصف ليلة وفاته بهذا التعبير) كل سنة حتى وفاته. لذا فقد أطلق عليه أصدقاؤه وأصحابه المقربون لقب “يانان دادا” أي “الشيخ المحترق” بسبب هذا العشق الروحاني.
وقد دُفن إلى جوار زوجته السيدة خديجة هانم في مقبرة كاراجا أحمد بمنطقة أوسكودار. وكُتب على شاهدة قبره: “هو (الله) الباقي. إن يامان ديده عاشق مولانا لبى نداء ربه الذي أمر النفس بقوله (ارجعي)”. وترك يمان ديده وراءه الكثير من القصائد في وصف ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم.