تحليل: عمر نور الدين
” عيش .. حرية.. عدالة اجتماعية” .. ” إرحل” .. “ميدان التحرير.. رمز الثورة” ..” الشعب يريد إسقاط النظام” .. هل ينسى أحد حتى الآن شعارات ثورة 25 يناير التي أزالت عن مصر نظاما عتيدا عاش 30 عاما يتغذي على آلام المصريين ويجهض أحلامهم .. يأكل قوتهم ويدمر صحتهم .. ويعطيهم تعليما بلاجودة .. ويحكم بلدا عظيما .. لا يرى منه زواره الأجانب إلا القمامة المتناثرة كالتلال في كل شوارع القاهرة التي كانت باريس وغيرها من العواصم الأوروبية تحلم بأن تصل إلى مستواها في يوم من الأيام؟..
تآكلت مصر تحت حكم نظام حسني مبارك وتكلست عظامها وتجمدت أطرافها وتراجعت قيمتها وهيبتها مع الانشغال بمشروع التوريث الذي كان يقوم على نقل الحكم من مبارك إلى نجله جمال .. لو تحقق هذا المشروع لعاش المصريون 30 عاما أخرى على الأقل في ظل الوضع الذي عاشوا فيه 30 عاما سابقة..
إن الإبهار الذي حققته ثورة 25 يناير وميدان التحرير كرمز لها يرتكز على قوتها في إسقاط نظام عتيد ودولة عميقة ما كان أحد يتوقع أن يرحلا في 18 يوما فقط من خلال دعوات مواقع التواصل الاجتماعي.
وحتى الآن هناك حالة من الانقسام بشأن ما إذا كانت ثورة 25 يناير استطاعت تحقيق أهدافها أم لا، بل إن هذا الانقسام العمودي يتعمق أكثر وأكثر للسؤال عن حقيقة هذه الثورة هل كانت ثورة أم مؤامرة على مصر في إطار مخطط كبير يتضمن منطقة الشرق الأوسط ككل عبر نموذج الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزارايس عام 2005.
لكن بعيدا عن كل هذه التموجات ما بين اعتبارها ثورة أو نكسة أو مؤامرة .. فإن إرهاصات الثورة كانت حاضرة بقوة في الشارع المصري وفي أذهان المصريين خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك ودولته التي كان أهم أعمدتها هو نظام القمع الأمني، وما تفشى في مصر من فساد خلال هذه الحقبة نتيجة الزواج بين السلطة ورأس المال وتراكم الثروة في أيدي فئة قليلة من رجال الأعمال في الدائرة المحيطة بمبارك وعائلته، وشيوع الفقر والمرض وتدني مستوى التعليم والأخلاق في المجتمع.
وكانت الانتخابات البرلمانية في 2010 هي الشرارة الكبرى التي أنذرت بعفل الثورة والحراك المجتمعي، مع كل ما كان يقال عن استسلام وخنوع الشعب المصري.. بهذا المنظور لا يمكن القول إلا أنها كانت ثورة حتى ولو لم تكن لها قيادة ما جعلها تتوه وتتخبط فيما بعد ويتسلمها الفصيل الأكثر تنظيما عل الساحة في مصر وهو الإخوان المسلمين رغم تحالفه السابق، غير المعلن، مع نظام حسني مبارك.
سنوات التخبط
عاشت مصر ثلاث سنوات عجاف من التخبط منذ رحيل نظام مبارك، الذي تم بطريقة تحفظ لمصر كيانها ليلعب الجيش كمؤسسة وطنية دورا في نقل السلطة من مبارك إلى من يأتي من بعده عبر صناديق الاقتراع .. وعاشت مصر تجربة الانتخابات وتجربة الانتقال الديمقراطي” غير الناضجة” .. لكن المصريون لم ينعموا بأجواء حقيقية أو مناخ يسهل لهم أن يعيشوا التجربة بكل أبعادها لأن البنية السياسية في مصر لم تكن معدة أو مهيأة لاستقبال حدث كهذا.. وكان من الطبيعي أن تفضي هذه الأجواء إلى الفصيل القادر على الفوز بالانتخابات، والذي تدرب كثيرا في حقبة مبارك واستطاع أن ينظم نفسه انتظارا للحظة السقوط.
لم يأت أداء الإخوان المسلمين بعد أن فازوا بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية ملبيا لتوقعات وطموحات الغالبية من المصريين التي منحتهم أصواتها ليس لأنهم الأفضل، لكن لأنه أخف الضررين .. إذ صوت المصريون من مختلف التيارات وليس الإسلاميون فقط للإخوان المسلمين حتى لايعود الحزب الوطني الديمقراطي ونظام مبارك من جديد.
وكان الخطأ الأكبر للإخوان المسلمين هو اتباع سياستين في الوقت نفسه السياسة المعلنة والسياسة الخفية، ففي العلن قالوا إنهم لن يخوضوا انتخابات رئاسة الجمهورية واتفقوا مع مختلف التيارات التي تحالفت معهم على ذلك وفي السر جهزوا خيرت الشاطر وبديله محمد مرسي لخوض انتخابات الرئاسة.. وبين المرحلتين أقر الإخوان المسلمون دستور عام 2012 تحت شعارات دينية وفي ظل حشد الناس تحت شعار التصويت بـ”نعم” يعني الجنة والتصويت بـ” لا” يعني النار.
وكانت الخبرة الضئيلة للإخوان المسلمين في حكم البلاد وعدم قدرتهم على تطوير نمط تفكيرهم للخروج من فكر الجماعة إلى فكر إدارة الدولة، والخطاب المتشدد لأنصار جماعة الإخوان المسلمين، وظهور حالة الازدواجية في الإدارة ما بين رئيس الجمهورية محمد مرسي ومرشد الجماعة، إلى الحد الذي دفع إلى تغيير الكثير من القرارات وصياغة العديد من التشريعات ومنها الإعلان الدستوري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 ، الذي كان مفصلا حرجا في مسيرة الإخوان في حكم مصر الذي لم يدم غير عام، تماما كما كانت انتخابات البرلمان عام 2010 منعطفا حرجا بالنسبة لنظام مبارك.. لتتولد إرهاصات الثورة ، فالناس لم تشعر بأن هناك تغييرا عما عاشوه في ظل حكم مبارك، بل شعروا بأن الإخوان المسلمين هم الطبعة الأخيرة من نظام مبارك، كما شعر جميع حلفاء الجماعة سواء من الليبراليين أو اليساريين أو الإسلاميين ولا سيما السلفيين، بأنهم كانوا مجرد جسر عبر عليه الإخوان لتحقيق أهدافهم .. ومن هنا تولدت دوافع ثورة 30 يونيو/ حزيران 2013 التي اختلف عليها أيضا هل كانت ثورة أم انقلابا.
في الذكرى الخامسة
وصلت مصر أمس الاثنين إلى الاحتفال بالذكرى الخامسة لثورة 25 يناير.. والتي تتزامن مع الاحتفالات بعيد الشرطة، ومر اليوم دون أحداث كبرى روجت لها جماعات الإخوان المسلمين عبر بيانات دعت للحشد والخروج إلى لميادين لإحياء الثورة، وفي المقابل طبقت الدولة تدابير أمنية مشددة للحفاظ على مؤسساتها ولمنع إراقة المزيد من دماء الشعب المصري في أحداث مشابهة أعقبت ثورة 25 يناير وتجددت في كل عام مع الاحتفال بذكراها في مشاهد كانت تبعث على القلق بشأن مستقبل مصر التي تشكل الدولة القلب والمحور لمنطقة الشرق الأوسط.
وبعكس الأجواء التي تشهدها تونس التي قامت فيها الثورة قبل مصر بفترة قصيرة، لم تتجدد في مصر أحداث الفوضى التي تعيشها تونس حاليا بسبب أن الثورة لم تستقر ولم تحقق أهدافها تماما كما يرى البعض أنها لم تكتمل في مصر ولم تحقق أهدافها .. مع فارق واحد وهو أن الشعب المصري ضاق بحالة عدم الاستقرار والفوضى الأمنية وتعطل الدولة فلم بعد يرى جدوى من تكرار تجديد الفعل الثوري مع كل ذكرى جديدة لثورة 25 يناير لتصبح مناسبة جديدة لإراقة مزيد من الدماء والإخلال بحالة الاستقرار والسكون التي اعادها الشعب المصري.
وجاءت الذكرى الخامسة لثورة يناير وقد استكملت مصر خارطة الطريق التي وضعت بعد ثورة 30 يونيو فقد أجريت الانتخابات البرلمانية والرئاسية ووضع الدستور الجديد للبلاد وبدأ البرلمان الجديد ممارسة دوره التشريعي في ديسمبر الماضي.
وألقى الرئيس عبد الفتاح السيسي كلمة للشعب بمناسبة ذكرى 25 يناير أكد فيها أن مصر تحتفل بذكرى 25 يناير التي ضحى الشباب المصري خلالها بأرواحهم من أجل دفع دماء جديدة في شرايين مصر تعيد إحياء قيم نبيلة افتقدناها لسنوات طويلة، وتؤسس لمصر الجديدة التي تتميز بالعدالة الاجتماعية.
وأضاف أن أي عمل إنساني يخضع للتقسيم وما اعترى هذه الثورة من انحراف عن الطريق الذي أراده الشعب لم يكن من أبنائها الأوفياء ولكن مممن حاولوا أن ينسبوها عنوة لأنفسهم وحاولوا استغلال زخمها لتحقيق أهداف خاصة.
وقال السيسي إن المصريين صححوا مسار ثورة يناير في 30 يونيو ومصر تحولت من وطن لجماعة إلى وطن للجميع في أقل من عامين. وأكد أن مصر لن تنسى دماء شهداء الوطن وما بذلوه لتقدم بلادهم.
وأضاف السيسى أن التجارب الديمقراطية لا تنضج بين عشية وضحاها، مشيرا إلى ان الدولة ستوفر مناخا إيجابيا وحرا للبرلمان الجديد وستواصل مسيرة الديمقراطية بما لا يتعارض مع الدستور.
ذكرى هادئة
وشهدت مصر أمس في الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير، مسيرات محدودة لعناصر من جماعة الإخوان المسلمين في بعض المناطق بالقاهرة الكبرى والمحافظات وتم ضبط خلية إرهابية وتفكيك قنابل ومتفجرات.
وإجمالا مر اليوم بهدوء وسارت الحركة المرورية بسلاسة ويسر وسط انتشار أمني مكثف بجميع المحافظات، زاد بصورة أكبر في ميادين التظاهرات، مثل التحرير وهشام بركات “رابعة العدوية سابقا ” والنهضة ومصطفى محمود والمطرية بالقاهرة والقائد إبراهيم بالإسكندرية.
وخلا ميدان التحرير، مهد الثورة، تماما من أية مظاهر احتجاجية مناوئة للسلطة، بينما سمح لعشرات بالتجمع حاملين أعلام مصر ومهنئين للشرطة في ذكرى عيدها الشرطة الموافق 25 يناير أيضا.
مصر بعد الثورة
كشف المركز المصرى لبحوث الرأى العام “بصيرة” عن أن نسبة 68% من المصريين يرون أن أحوال البلد بصورة عامة الآن أفضل بكثير عن أحوالها قبل ثورة يناير، حيث يرى 29% من المصريين أن أحوال البلد بصورة عامة الآن أفضل بكثير من أحوال البلد قبل ثورة يناير، و39% يرونها أفضل، بينما 10% لا يشعرون بأى تغيير فى الأحوال مقارنةً بالأحوال قبل الثورة، و10% يرون الأحوال الآن أسوأ و9% يرونها أسوأ بكثير و3% لم يستطيعوا التحديد.
ويصف حسن أبو طالب مستشار مركز الدراسات السياسة والاستراتيجية بصحيفة الأهرام المصرية النشطاء الذين ما زالوا يطالبوا بثورة في مصر بــ “الناقمين”.
ويقول: “جزء من مشكلة الذين شاركوا في بناء نظام يونيو 2013 ثم غيروا جلدهم بعد ذلك لانطفاء الأضواء أو الابتعاد عن مراكز التأثير أو اصطدموا بمشكلة شخصية هنا أو هناك، أنهم ينكرون حدوث أي تغيير إيجابي تم بالفعل أو يجرى حدوثه، ويتصرفون وكأن اهداف الثورة، وهي العيش والحرية والكرامة، يمكن أن تهبط على المجتمع بين عشية وضحاها، ويتجاهلون حجم المشكلات التي تراكمت عبر ستة عقود أو أكثر، ويطرحون تصورهم وكأن البلاد لديها كل عناصر التقدم ولكنه النظام القمعي الذى يحول دون ذلك لأنه أبعد رموز الثورة عن القيادة، وهو طرح مغلوط جملةً وتفصيلاً، فلا خصومة بالمطلق بين النظام وفئة الشباب، ولا فئة الشباب كلها على قلب رجل واحد وضد النظام كما يوحى البعض بذلك”.
وفي رؤية أخرى قال علي المنزلاوي في مقال بصحيفة البديل “الحقيقة من ضد 25 يناير ليسوا ضدها كثورة بل معترفون بها، لأنها هزت عرش حاكم حكم أكثر من 30 سنة، لكن الفكرة أنه ضد مطالب الثورة، فكيف لمثل هؤلاء الشباب أن يهزوا كيان الدولة العميقة، التي عاشت وتأسست وترعرعت على الفساد والرشوة والمحسوبية، ليقضوا على روتين دولة العجائز”.
ويقول مايكل عادل أحد نشطاء ثورة 25 يناير في الصحيفة ذاتها: “ربما يكون سبب عدم وجود جديد هذا العام هو أن العام الماضي 2015 كان عاماً بلا صوت ولا حركة حتى على المستوى الشخصي”
وتعجب عزمي عاشور، في مقال لصحيفة الحياة اللندنية، مما يطلق عليها “التقسيمات القطعية للبشر في مصر المحروسة التي أصبح أسهل شيء فيها اختصار الإنسان في جملة من التوصيفات التي تحمل تهماً واستبعادا وكأن من يطلقونها لا يقعون تحت هذه العادة الذميمة”.
ويقول الكاتب: “هو الأمر الذي أدى إلى إشعال الرأي العام، سواء بإعلامه أو بفضائه الإلكتروني، بحرب بين هذه الأطراف بتسمياتها المختلفة ما بين فلول وإخوان وثوار”.
وفي صحيفة السفير اللبنانية كتب حسام مؤنس “حُمّلت «25 يناير» بما لا يمكن أن تتحمله، من مسؤولية عن تدهور الأوضاع، ووصول البلاد إلى ما وصلت له، بما في ذلك تدهور الأوضاع الإقتصادية وظهور المزيد من الأمراض المجتمعية، فضلاً عن خطيئة وصول «الإخوان» الى الحكم”.
ويضيف: “الحقيقة أن كل هذا وغيره الكثير، يأتي كجزء من مساع مستمرة، منذ فترة حكم المجلس العسكري للمرحلة الإنتقالية الأولى، وحتى الآن، لتشويه «يناير» من جانب خصومها، وهو تشويه ممنهج مرّ بمراحل مد وجزر على مدار السنوات الخمس الماضية، لكنه ربما شهد أكبر مراحل المد خلال العامين الأخيرين، بعدما بدأ خصوم الثورة بالعودة الى تصدّر المشهد مجددا بعد «30 يونيو»، مدّعين ملكيتهم لـ «يونيو»، وأنهم أصحاب الفضل فيها، وأنها جاءت لتنتزع الشرعية من «يناير» لا لتستكمل مسارها”.
إذن.. مرت خمس سنوات على ثورة يناير وأكثر من عامين على ثورة 30 يونيو ولايزال هناك من يعتقدون أن يناير كانت الثورة الحقيقة وآخرون يعتقدون أنها كانت المؤامرة الحقيقية، وهناك من يرون أن 30 يونيو كانت استكمالا لثورة يونيو على أساس أن الجيش هو المؤسسة الوطنية التي حمت الثورتين فيما يري البعض أنها كانت انقلابا من الجيش على شرعية الإخوان، ومن يرون أن فشل الإخوان هو سبب زوال سلطتهم في اقل من عام.. والإخوان أنفسهم يرون أنهم سلبوا حقهم لم يأخذوا فرصتهم .. لكن السواد الأعظم من الشعب المصري الآن ملتف حول قيادة بلاده لا يفكر إلا في الانطلاق للخروج من الوضع الاقتصادي الصعب والولوج إلى حقبة جديدة من الاستقرار .. ولسان حالهم يقول: “كفانا ثورات”.