بقلم: جمال أدهم
أقام حزب “الوطن” التركي بقيادة “دوغو برينتشيك” دعوىً قضائية أمام المحكمة العليا ضد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي مطالباً بحله بسبب ما ادعى بوجود تعاون بين الحزب ومنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية.
لكن أليس في ذلك غرابة؟ أليس دوغو برينتشيك، باعترافه هو، مَنْ تبادل الورد مع زعيم العمال الكردستاني الإرهابي المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة “عبد الله أوجلان”؟ وهل هناك من أحد يمكنه أن ينكر الصورة التي سجّلتها أجهزة الدولة ونشرتها جميع المواقع والصحف الإخبارية، والتي يقدّم فيها برينتشيك الورد لأوجلان؟ إذن كيف يمكن التوفيق بين الصداقة الحميمة مع أوجلان والسعي لإغلاق الحزب الموالي له؟!
لن يستفيد من إغلاق الحزب الكردي سوى حزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان. ولذلك اتهم زعيم الحزب الكردي صلاح الدين دميرتاش كلاً من برينتشيك والرئيس أردوغان بالتعاون لإغلاق حزبهم.
وإذا علمنا أن نسبة أصوات حزب برينتشيك لا تتجاوز 0.2%، ولا يخطّط أصلاً للحصول على أصوات الأكراد، بل حتى لا يفكّر في الوصول إلى السلطة؛ لأن له مهمة أخرى في تركيا، نستنتج بسهولة أن خطوته هذه ستصبّ في مصلحة أردوغان. إذ يرغب الأخير في الحصول على أصوات الأكراد بعد حلّ الحزب الكردي من أجل رفع عدد نواب العدالة والتنمية إلى النسبة الضرورية للانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي.
مَنْ أعلن انتهاء مفاوضات السلام مع العمال الكردستاني بعد أن تمكّن الحزب الكردي من تجاوز الحد النسبي اللازم لدخول البرلمان وحطّم بذلك حلم الانتقال إلى النظام الرئاسي؟
مَنْ نظم هجوماً على مؤتمر جماهيري في ديار بكر استهدف الزعيم الكردي دميرتاش؟
مَنْ قتل “الشباب الأكراد” في بلدة “سروج” التابعة لمدينة شانلي أورفة؟
مَنْ أرسل هذه “التمريرات” إلى العمال الكردستاني ليعود مرة أخرى إلى الكفاح المسلّح ويشعل فتيل هجماته الإرهابية مجدداً بعد أن كان يتفاوض مع الحكومة طيلة ثلاث سنوات من أجل إقامة السلام؟
ومِنْ ثم مَنْ أمر بتنفيذ عمليات أمنية وعسكرية ضد العمال الكردستاني بعد أن سمح له بتخزين الأسلحة والاستعداد لحرب الشوارع والمدن المستمرة حاليا في المنطقة، كَمَنْ يسمح للفأرة أولاً لتَدْخل المحلّ المملوء بالزجاج، ثم يدخله بالفيلة ليخرج هذه الفأرة منه؟
مَنْ رفع وتيرة الإرهاب والعمليات العسكرية ضده وقاد البلاد إلى هذه الأيام التي يطالب فيها بيرينتشيك بإغلاق الحزب الكردي. لماذا يقدّم برينتشيك هذه التمريرة لأردوغان لتيكون ذخيرة له في طريقه إلى النظام الرئاسي؟ أليس جواب هذه الأسلحة واضحاً للقاصي والداني؟
إذا علمنا أن الرئيس أردوغان اتفق أو اضطرّ إلى الاتفاق مع الدولة العميقة في تركيا بعد أن أصبح في زاوية ضيقة بسبب فضائح الفساد والرشوة الكبرى المعروفة، وأن دوغو برينتشيك يوصف في سجلات قضية “أرجينيكون” الرسمية بأنه “أحد كبار قادة تنظيم أرجينيكون الإرهابي” وأن العمال الكردستاني يعتبر الجناح الكردي لهذا التنظيم، وأن الزعيم الإرهابي عبد الله أوجلان أحد قادة أرجينيكون “الكردي”.. وكذلك إذا تذكّرنا الحديث الذي جرى بين النائب الكردي سري ثريا أوندر والزعيم الإرهابي أوجلان في محبسه، بحسب المحاضر التي نشرتها جريدة “مِلّيَتْ” بتاريخ 28 فبراير/ شباط 2013، والتي تضمّنت المحادثات التي دارت بين وفد حزب السلام والديمقراطية؛ حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الحالي، في إطار مفاوضات السلام الرامية إلى تسوية القضية الكردية، حيث كان يقول أوندر لأوجلان:
“وهناك قضية انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي أيضاً.. فالرأي العام حساس جداً في هذا الموضوع”، فكان يردّ أوجلان عليه بقوله: “من الممكن أن نُعمِل الفكر في النظام الرئاسي ونتبناه. فنحن نقدّم دعمنا لرئاسة السيد أردوغان. لذلك يمكننا الاتفاق مع حزب العدالة والتنمية على أساس هذا النظام الرئاسي”.. يتبيّن حينها أن أردوغان كما اتفق مع تنظيم أرجينيكون التركي للخروج من مأزق “فضائح الفساد”، كذلك اتفق مع أوجلان خلف الكواليس بشأن “النظام الرئاسي” تحت قيادته، مقابل بعض التنازلات، ولعلّ الإفراج عن أوجلان منح الحكم الذاتي له في المناطق الكردية يأتي على رأسها.
لكن الرياح جرت بمالا تشتهي سفن أردوغان وأوجلان ولم تتطوّر الأحداث كما خطّط لها. فمع أن استطلاعات الرأي كانت تشير إلى أن نسبة أصوات الشعوب الديمقراطي لا تكفي لدخول البرلمان، إلا أن زعيم الحزب الكردي صلاح الدين دميرتاش أعلن أنه سيدخل الانتخابات البرلمانية (7 حزيران 2015) كحزب مستقل، وقال في خطاب ألقاه في مقر البرلمان ووجهه لأردوغان: “لن نسمح لك أبداً بأن تنقل البلاد إلى النظام الرئاسي وتكون أنت رئيسها”. وفعلاً نجح دميرتاش في تخطي العتبة الانتخابية وحصل على 80 مقعداً برلمانياً. فالأكراد رفضوا “اللعبة السرية” أي “خذ الحكم الذاتي وأعطِ النظام الرئاسي”!
بعد ذلك بالضبط تفجّرت كل الأحداث الإرهابية التي تشهدها تركيا منذ نصف عام تقريباً؛ لأن الحزب الكردي تخطى العتبة الانتخابية مخترقاً بنود الاتفاقية التي تمّ التوصل إليها في محافل خفية. وبذلك زال “الدافع” الذي كانت مفاوضات السلام تجرى من أجله، فصرح أردوغان في 17 يوليو/ تموز 2015 بعدم وجود ما يُسمى بـ”مصالحة قصر دولما بهشه”، التي جرت بين أعضاء حكومة العدالة والتنمية وكبار أعضاء الحزب الكردي، ثم أطاح بطاولة عملية السلام في 28 يوليو/ تموز 2015. ومن ثم صوّر نائب رئيس الوزراء يالتشين أكدوغان الحالة النفسية التي سيطرت على أردوغان وفريقه بقوله: “إذا قلتم إننا لن نسمح لك بأن تكون رئيساً في ظل نظام رئاسي، فإنه لا يمكن أن يحدث غير ما حدث اليوم! فليس بمقدور الشعوب الديمقراطي بعد اليوم إلا أن يصوّر فيلم مسيرة السلام!!”.
ووفق بعض التقارير الصحفية، يخطّط أردوغان للإعلان عن انتخابات مبكرة جديدة، أملاً في زيادة عدد نواب العدالة والتنمية ليستطيع تحقيق حلمه في نقل البلاد إلى النظام الرئاسي. لكن العدد الحالي لنواب حزب أردوغان لا يكفي لإجراء حتى استفتاء عام حول النظام الرئاسي، إذ ينبغي موافقة 367 عضواً برلمانياً لقبول هذا النظام دون الحاجة إلى الاستفتاء العام، أو موافقة 330 نائباً لعرض الموضوع على الشعب من خلال الاستفتاء العام. وإذا أخذنا عدد نواب العدالة والتنمية (316)، ومعارضة الأحزاب الأخرى، ووجود الحزب الكردي في البرلمان، فإن هذين الخيارين غير واردين. فضلاً عن أن أردوغان لا يريد أن يخاطر بحلمه ولا يثق في مؤيّديه، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أن نسبة كبيرة من أنصاره لا تدعم النظام الرئاسي مع دعمها رئاسته في ظلّ النظام البرلماني. لذلك يريد أردوغان حلّ القضية تحت سقف البرلمان دون الذهاب للاستفتاء العام بعد رفع عدد نواب حزبه إلى 367 برلمانياً على الأقلّ. وهنا بالضبط تبرز أهمية وقيمة “الكرة” التي مرّرها بيرنتشيك لأردوغان ليسدّدها إلى المرمى ويحقّق هدفه. إذ يطمح أردوغان أن يدخل البرلمانَ مرشحو العدالة والتنمية بشكل تلقائي بدلاً عن مرشحي الحزب الكردي بعد حلّه.
ويبدو أن أردوغان يتعمّد في تصعيد خطابه ضد الأكاديميين الذين وقّعوا على وثيقة مشتركة دعوا فيها لوقف العمليات الأمنية والعسكرية والهجمات الإرهابية وإقامة السلام الداخلي في المناطق ذات الأغلبية الكردية، لدرجة أن بعضاً منهم أبعدوا من مناصبهم، والبعض الآخر تعرّضوا للوقف عن العمل، كما فتحت النيابة العامة تحقيقاً مع بعضهم. وقد تعوّد أردوغان منذ عام 2011 على إدارة البلاد ورصّ صفوف مؤيديه عبر التوتّرات والأزمات، بما فيها الأزمة مع العمال الكردستاني. والواقع أنه في الحقيقة يبحث عن “ثوب قانوني” لنظامه الرئاسي الذي يطبّقه الآن “فعلياً”، منتهكاً الدستور وصلاحيات رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو.
وفي ظل “أزمة الزعامة” التي يعيشها كل من حزبي الحركة القومية والشعب الجمهوري المعارضين، وإذا ما استطاع أن يغلق الحزب الكردي، فإنه لن يكون من الصعب التكهّن بأن أردوغان سينقل تركيا إلى النظام الرئاسي وسيجمع كل السلطات في ذاته لتستكمل أركان “نظام الرجل الواحد” بشكل قانوني أيضاً، إلا أن يكون الله قد أراد شيئاً آخر. إنه لا يفكّر إلا في تحقيق أغراضه وطموحاته الشخصية ولو على حساب خسارة الشعبين التركي والكردي معاً.
إن الدولة العميقة (أرجينيكون) في تركيا تدفع الأكراد عمداً إلى حضن جناحها الكردي حزب العمال الكردستاني منذ 30 عاماً بشكل ممنهج. فبعد أن كادت تركيا تقضي على العمال الكردستاني بفضل العمليات العسكرية والأمنية الناجحة التي نُفّذت في عهد وزير الداخلية الأسبق في حكومة العدالة والتنمية “إدريس نعيم شاهين”، وبفضل الإصلاحات الجذرية التي أجرتها حكومة أردوغان من أجل الاعتراف بالحقوق الأساسية للشعب الكردي، هبّت هذه الدولة العميقة لتقدّم “طوق النجاة” له عبر ما يسمى بـ”مفاوضات السلام”. واضطرّت حكومة أردوغان لهذا السبب أو ذاك إلى قبول إملاءات الدولة العميقة في هذا الصدد، فأقالت الوزير شاهين من منصبه تكيّفاً مع “ظروف السلام الجديدة” مع المنظمة الإرهابية، وشرعت في التفاوض معها بدعوى إقامة السلام الداخلي، وسمحت لها بتخزين كل نوع من الأسلحة الثقيلة والخفيفة، لدرجة أن رئيس المخابرات العسكرية السابق “إسماعيل حقّي بكين” ادعى أن الأسلحة التي تستخدمها المنظمة حالياً ضد عناصر لجيش التركي هي الأسلحة التي زعمت الحكومة أنها أرسلتها إلى المعارضة السورية! والآن تقود المنظمة بفضل هذه الأسلحة حرب الشوارع في شرق وجنوب شرق تركيا، في حين أن الحكومة تحاصر كل المنطقة وتعاقب جميع الأكراد بحجة مكافحة الإرهابيين! مع أن المطلوب هو مكافحة الإرهاب دون إلحاق أضرار بالمواطنين المدنيين، والتفاوض مع الحزب الكردي الذي سُمح له بالعمل تحت سقف البرلمان بموجب الدستور التركي، إلى جانب الأحزاب الكردية “القانونية” الأخرى، لحلّ المشكلة، بدلاً عن التفاوض مع المنظمة الإرهابية. إلا أن أردوغان يسعى لركوب الموجة التي تحدثها العمليات – الإرهاب للانتقال إلى النظام الرئاسي.
الدولة العميقة تريد لتركيا أن تكون دولة مقسّمة صغيرة ضعيفة منطوية على ذاتها متصارعة مع جميع الطوائف في الداخل وكل الدول المجاورة في الخارج، لكي تديرها وحدها وفق هواها وعلى نحو يتوافق مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية كما كان سابقاً.
انظروا إلى “تركيا الجديدة” كيف تحوّلت من العداوة الشرسة لإسرائيل إلى الصداقة الحميمة معها تحت قيادة “الإسلاميين” بفضل سلسلة “المشاكل والأزمات” التي اختلقتها الدولة العميقة في الداخل والخارج. ولو أقدم أي زعيم عربي على التطبيع مع إسرائيل لكان أثار غضب العرب والمسلمين عموماً إلى حد بعيد، لكنهم يبدون اليوم مسحورين بتحديات أردوغان الخطابية والحماسية السابقة ضد إسرائيل.
وللأسف الشديد كل هذه الأمور تتحقّق في ظلّ حكم أردوغان. وعلى الرغم من أنه أطلق مشواره السياسي قبل 15 عاماً ليحقّق أحلام الشعبين التركي والكردي في السلام والأخوة، لكنه عاد من ذلك ليتوجّه إلى ترجمة أحلامه الطوباوية وطموحاته غير المحدودة إلى أرض الواقع.