عمر نور الدين
ماذا يحدث عندما يغيب عقل الدولة أو يتم تغييبه ليحل عقل الحاكم الفرد مكانه؟
في العديد من الديكتاتوريات التي شهدها التاريخ القديم والحديث للأمم والشعوب، عديد الأمثلة التي انهارت فيها الدولة بعد أن تم تغييب عقلها وحل محله عقل الحاكم الذي يتصرف بمفرده بعيدا عن مؤسسات الدولة التي يعمل على مخالفتها بل وإحراجها في الكثير من المواقف لأنه لا ينظر إلا إلى نفسه فقط.
إذا أردنا تطبيق هذا بالأمثلة على تركيا لوجدنا العديد من المواقف التي ظهرت فيها بصمة الحاكم الفرد ومجموعة المقربين منه، وأثرت سلبا على قيمة واعتبار الدولة وأظهرت في الوقت نفسه أن الدولة تعمل بلا عقل أو أنها تعاني انفصاما في الشخصية.
لعل أحدث الأمثلة على ذلك موقف تركيا من الأزمة الأخيرة بين السعودية وإيران على خلفية إعدام 47 من المتهمين بارتكاب أعمال إرهابية والتخطيط لها في السعودية من بينهم الشيعي نمر باقر النمر .. كيف تصرفت تركيا ” الرسمية” أو تركيا” الدولة” تجاه هذا الحدث وكيف جاء رد فعلها؟
لايخفى على أحد أن هناك محاولات من تركيا للتقارب مع السعودية بعد فترة توترت فيها العلاقة بسبب التصريحات الحادة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تجاه السعودية والدول الأخرى التي دعمت القيادة الجديدة في مصر بعد الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي المنتي لجماعة الإخوان المسلمين في عام 2013 ، ولا يخفى على أحد أيضا أن تركيا تسعى للحفاظ على علاقاتها مع إيران التي وصفها أردوغان قائلا ” بيتي الثاني” وإبقاء قنوات الحوار مفتوحة لاعتبارات خاصة باعتماد تركيا على الغاز الطبيعي الإيراني بشكل كبير فضلا عن المصالح التي تجنيها تركيا من خلال سياسة العقوبات المفروضة على إيران، وما ينتظر تركيا من مكاسب أيضا حال رفع العقوبات عن إيران بعد الاتفاق مع الغرب، فضلا عن أن التقارب الإيراني مع الغرب دفع تركيا كذلك إلى التفكير في المزيد من التقارب معها رغم التباين الشديد في المواقف بالنسبة لسوريا ومخاوف الدعم الإيراني للأكراد، بعكس الحال مع السعودية.
في حالة كهذه، ماذا كان متوقعا من تركيا الدولة التي ترتبط بمصالح قوية مع الجانبين والتي يفترض أنها لا تعتمد سياسة تعميق الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة وجعلها أساسا للعلاقات مع دول المنطقة.. بالطبع كان المنتظر هو الاتساق في السياسة بين مؤسسات الدولة في التعامل مع الأزمة بين السعودية وإيران.
لكن ما حدث كان عكس ذلك تماما، فالحكومة التي يقودها رئيس الوزراء أحمد داوداوغلو أعلنت موقفا متزنا يطالب طرفي الأزمة بإعمال العقل وعدم تصعيد الموقف ويعلن رفضه للمساس بالبعثات الدبلوماسية ويرفض الإعدامات التي وصفها بالسياسية على أساس أن تركيا أسقطت هذه العقوبة من سجلها القانوني منذ سنوات.. وعلى هذا المنوال أيضا سارت الخارجية التركية.. لكن الرئيس أردوغان كان له موقفه الخاص الذي يختلف، كالعادة، مع مؤسسات الدولة التي من المفترض أنها من تضع السياسات وتقوم على تنفيذها، فأظهر انحيازا إيديولوجيا تاما لطرف من الطرفين، بل إنه دافع عن عقوبة الإعدام واتهم منتقديها سواء إيران أو الولايات المتحدة بأنهم يصمتون تجاه قتل الآلاف في سوريا بينما ينتفضون لإعدام سجين واحد في السعودية، كما أن عقوبة الإعدام سارية لديهم ولا أحد يستطيع انتقادهم عندما ينفذوها.
أليس أردوغان هو نفسه الذي هاجم مصر بسبب أحكام الإعدام الصادرة بحق قيادات وأعضاء في جماعة الإخوان المسلمين ووصفها بأنها أحكام سياسية وأنها نوع من الظلم؟ على الرغم من أنها لم تنفذ بعد وهناك العديد من درجات التقاضي قد تلغيها تماما؟ فلماذا ياترى قبل أحكام الإعدام في السعودية ورفضها في مصر مع أن حكومته أعلنت رفضها لما اسمته بالإعدامات السياسة؟!
هل يجوز للحاكم أن يتغاضى عن سياسة الدولة ومعاييرها وأن يتصرف على هواه في كل المواقف، وهل يجوز له أن يوظف كل شئ من أجل مصالح ضيقة لكسب أصوات الناخبين أو للتلاعب بمشاعر العامة؟ وهل يجوز له تخوين كل من لايتفق معه في الرأي سواء من السياسيين أو الصحفيين أو الأكاديميين أو رجال العلم والدين؟.. بالطبع لا، لأن الحاكم في النهاية هو آلية من آليات الدولة.
إن ما يشهده جنوب شرق تركيا من حرب مفتوحة بين قوات الأمن التركية ومنظمة حزب العمال الكردستاني، خلف مآسي حقيقية لقطاع عريض من المواطنين الأتراك فقد حقه في العيش في سلام وأمان .. لا أحد يختلف مع الدولة في ضرورة مكافحة الإرهاب، لكن لا يمكن أن تكون الدعوة للسلام ووقف إراقة الدماء ” خيانة” إلا في دولة مزدوجة يغيب فيها العقل الجمعي ويتسلط فيها العقل الفردي.. لقد تحدثوا كثيرا عن ” جمهورية الموز” وفعلوا كل شيء ضد كل من يختلف معهم في الرأي أو ينتقد فشل سياستهم الداخلية والخارجية واستغلالهم لقضية اللاجئين وبعدها الإنساني لتتحول إلى قنبلة موقوته تنفجر أحيانا في أنقرة وأخرى في سوروج وثالثة في ميدان السلطان احمد في قلب إسطنبول. رافعين شعار أننا لسنا في جمهورية موز ..
فكيف يمكننا إذن أن نصف بلدا يغيب فيه عقل الدولة أو يتم تغييبه وتتحكم فيه عقلية استقطابية إقصائية تميل للاستبداد، ويظهر وكأنه بلد يعاني انفصام الشخصية فيعادي إسرائيل ثم يسعى للتصالح معها ويصفها بالصديق؟!