لقد عرف فتح الله كولن هدفه، وحدد غايته، فعرف أنه ليس محتاجا للعمل السياسي ليبلغ غايته، بل سيكون انشغال دعوته بالعمل السياسي معيقا له عن تحقيق الهدف في كثير من الأحيان!
لقد جعل فتح الله كولن هدفه: دعويًا، علميًا، نهضويًا، مشروعًا حضاريًا، وهذه كلها لا تحتاج نشاطًا سياسيًا لتحقيقها، بل سيعوقها العمل السياسي، إن لم يقوضها من أساسها!
كل الذي يتمناه كولن من السياسة هو أن تسمح له بالقيام بنشر الدعوة الإيمانية العلمية الحضارية التي ينشدها، كل الذي يتمناه هو وسطٌ سياسي غير متوحش في إقصائه. لا يريد من السياسيين غير حرية ما، لا يطمع إلا بقدر من الحرية التي تتيح له نشر العلم والوعي.
مع أن دعوته قد استطاعت أن تشق طريقها حتى في وسط توحش علماني متسلط قبل نحو خمسين عاما، فهو مؤمن أنه ما انسد باب للتصحيح والدعوة إلى الله، إلا وفَتَحَ الله بابا آخر؛ فالدين دين الله، والخلق عباد الله الذين يحب هدايتهم وسعادتهم.
لقد عرف الأستاذ أن السياسة والتحزب لها سوف تجعل دعوته معرضة لمعايب اختلاط الأطماع السياسية بنبل الهدف، ولمخاطر السقوط عند سقوطها سياسيا. وكانت هذه المعايب والمخاطر خالية من مصالحَ تنفع هدفه الدعوي والعلمي والحضاري، فوجد أنه لا خير له فيها؛ فاعتزل العمل السياسي كحزب سياسي، لكنه لم يعتزله كفرد من أفراد وطنه، وهذا هو المطلوب من أي تركي تجاه وطنه. فكل مواطن له حق المشاركة في بناء وطنه حسب أنظمة بلده وقوانينه، وعلى هذا وجدت بعض أعضاء دعوته في تركيا من أعضاء وقيادات (الخدمة).
فالتحزب السياسي، والأطماع السياسية خطان أحمران في هذه الدعوة للمنتظمين في نشاطها الدعوي والعلمي والنهضوي: لا تحزب، ولا مطامع سياسية باسم الحركة أو لأجلها؛ فهي ترفض ذلك كل الرفض، ولا تريده؛ بسبب رؤيتها لهدفها، الذي لا تخدمه فكرة التحزبات السياسية، ولا المناصب والقيادات السياسية العليا.
ولا شك أن هذا الموقف لن يروق كثيرا من الأحزاب الإسلامية ذات النشاط السياسي، ولكن تبقى هذه هي رؤية حركة (الخدمة)، وتبقى أنها مع رفضها للتحزب السياسي تحت شعارات دينية، لكنها لا تتدخل في اختيار غيرها من الدعوات، وتحاول ألا تخوض مع مخالفيها في ذلك خصومة معلنة، فضلا عن خوض معارك كلامية أو نضال سجالي؛ لأنها لا ترى مصلحة في ذلك.
إن حركة الأستاذ فتح الله كولن تستمد قوتها من الله تعالى، ثم من بُعدها كل البُعد عن اللعبة السياسية.
وتمتاز هذه العزلة السياسية أنها ليست عزلة عن الواقع السياسي، فهذا تغييب للوعي وجهل لا يليق بدعوة تريد أن تكون صاحبة توعية وإصلاح . ولكنها عزلة عن العمل السياسي، مع محاولة تعميق التصور للواقع السياسي، حتى لا تكون جاهلة به، ولا تصطدم بسياسة قائمة، فيكون ذلك سببا في محاولة تقويض جهودها.
فهل نفع الجماعة كل هذا الحرص على عدم تعويق السياسة لجهودها.
هذا ما قد أتحدث عنه في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى!