أ.د. فريد الأنصاري
الدين غذاء كلي شامل، غذاء للروح وللعقل وللبدن جميعا؛ فكل الصلوات، وكل الزكوات، وسائر الأعمال من الأركان والسنن والفضائل أطباق شهية من غذاء الدين. بيد أن كثيرا من الناس في هذا العصر غلب عليهم الاهتمام -من الدين- بما يغذي العقل فقط، أو ما يغذي عزيمة جهاد العدو فقط، أو ما يشحذ الذهن لخوض غمار الصراع السياسي فقط. وكل ذلك زاد ضروري للمؤمن، لكنه جزء من الدين وليس كل الدين.
ومن ثَمَّ كان لابد من تغذية أخرى، تغذية ترجع على كل ما سبق بالتخلية والتحلية؛ حتى يكون معبّرا بصدق وإخلاص عن حقيقة الدين.. تغذية ذات طبيعة أخرى ومذاق آخر، تنال فيها من لذات الروح ما لا تجده في شيء آخر.. إنها “خلوة الروح للمناجاة والابتهال”، خلوةٌ لا يعكر صلتَك بالله فيها شيءٌ على الإطلاق.
وإنما هي أوقات تختارها بنفسك، لتناجي فيها ربَّك بالثناء والدعاء، أوقات يصفو فيها قلبُك لله ويخلص له، بليلٍ أو نهارٍ، فتعرج إليه أشواقُك في خلوات الروح رَغَباً ورَهَباً، عبر كلمات الذكر والثناء عليه تعالى، بما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، مما عَلَّمَنَا سبحانه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى.. فتدعوه بما دعاه الأنبياءُ والصِّدِّيقون والأولياءُ المخلَصون.
وإنَّ لِذِكْرِ الله جل جلاله بالدعاء والثناء عليه -مَقْرُونَيْنِ- لأثراً عجيبا على النفس، وإن ذلك لمن أحب العبادات إلى الله، وأقربها طريقا إليه تعالى. والثناءُ على الله جل جلاله يكون أساساً بما أثبت لنفسه تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ ذلك أن الثناء عليه تعالى بأسمائه وصفاته، وجميل صنعه وفعاله، وحكمة تقديره وتدبيره مرتبط أشد الارتباط بأدب الدعاء، في كل الصيغ الواردة عن الأنبياء والصالحين، كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم والسنة النبوية بشكل مستفيض؛ حتى إنك لا تكاد تجد دعاءً قرآنيا أو سُنِّيا إلا وتجده مقرونا بالثناء على الله بجمال أسمائه وصفاته تعالى. وهو منهج بقدر ما يكون أدعى للإجابة والقبول، يزيد العبد معرفة بالله وعلما به جَلَّ عُلاَه. وإن ذلك لَهُوَ من أعظم المقاصد التعبدية في الدين، ومن أجمل الطرق الموصلة إلى رب العالمين.
وإنَّ أوقاتاً تصفو فيها النفس لمثل هذا لهي “الأوقات” حَقّاً! وقد كان الربانيون من قبلُ إذا عَلِمُوا أحدَهم له مثل ذلك قالوا في ترجمته: “فلان له أوقات”، أو “كان صاحب أوقات” وكأنما “الوقت” -بهذا المعنى- إنما هو ما تمضيه في مناجاة الله.. وما سواه ليس لك بوقت، بل قد ضاع منك ومضى هدراً..! وأما الآخر فقد بقيتْ لكَ بركاتُه إلى يوم القيامة؛ لحظاتِ خُلْدٍ تؤتي أكلَها كلَّ حين بإذن ربها، فَأَكْرِمْ بِهِ من “وَقْتٍ” وأنْعِمْ!
ذلك أن المناجاة لله والابتهال -بالدعاء والثناء عليه تعالى- تورث القلب إشراقا نورانيا خاصا، يجعل العبد شفافَ الروح، صافي الوجدان، يرى بنور الله.. فإذا به يتدرج -ما داوم على ذلك- عبر مدارج الإيمان نحو منـزلة الولاية حتى يكون ممن أوتي البركةَ والحكمة، من الصّدّيقين والرّبّانيينَ.
سر الإخلاص
فأنْ تُناجيَ الله بالدعاء -كما وصفنا- يعني أنك تعبده بصدق، لأن الدعاء إنما يكون عند “الشعور بالافتقار” وذلك سر الإخلاص، وحقيقة التوحيد؛ ومن هنا لا يمكن للمضطر إلا أن يكون مخلصا إذا دعا الله جل وعلا على الحقيقة؛ نعم، حتى لو كان مشركا. وإنما يكون إخلاصه للحظة عابرة، هي لحظة “الشعور الاضطراري بالافتقار إلى الله”، ثم يعود إلى شركه.وسَبَبُ ذلك واضحٌ على مستوى النفس الإنسانية وطبيعتها، فاقرأ إن شئت قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا﴾(الإسراء:67)، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكاَنٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾(يونس:22-23). ومثله قوله سبحانه: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾(العنكبوت:65)، والسر في إخلاص المشرك عند الدعاء -ساعةَ الخوف والاضطرار- إنما هو شعوره الصادق بالحاجة إلى الله اضطراراً، فهنالك يَضِلُّ عنه كلُّ ما كان يشرك به من قبل، ولا يبقى عنده من أمل حقيقي يتعلق به إلا الله.
حقيقة الدعاء
وإنما القصد من هذا كله بيان أن الدعاء هو التعبير الصادق عن الاحتياج والافتقار إلى الله؛ فكان بذلك هو أصفى لحظات العبادة لله وأخلصها لوجهه الكريم، والمؤمن الصادق المخلص هو أولى به وأجدر. فسير العبد إلى الله كلُّه دعاءٌ بهذا المعنى.. سواء في ذلك صلاتُه، وصيامه، وزكاته، وذكره، وشكره، وخوفه ورجاؤه، وسائرُ عمله. كل ذلك إنما حقيقته طلب رضى الله، وابتغاء وجهه جل علاه. وما معنى الدعاء غير هذا؟ فلم يبق شيء من الدين إذن لم يدخل في معناه. فلَكَ أن تقول إن الذي لا يدعو ربه -على كل حال- لا يعبده بصدق؛ بما هو لا يمارس العبادة على وجهها الحقيقي، أي تحقيق معنى الافتقار إلى الله في كل شيء، سواء على مستوى الوجدان أو التعبير.
ولذلك كان الدعاء هو جوهر العبادة وروحها. وكان ذلك البيان النبوي البليغ -من جوامع كَلِمه صلى الله عليه وسلم- مما رواه الصحابي الجليل النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن الدّعَاء هو العبَادة” ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾(غافر:60)” (أخرجه الأربعة)، ومن هنا تضافرت الآيات، وتواترت الأحاديث في الأمر بالدعاء؛ فكان قول الله تعال مما قرأه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور دالا على وجوب الدعاء على الإجمال، إذ المخالفة مآلها ترهيب كما هو واضح من سياق الآية: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾، وعلى هذا يفهم قوله صلى الله عليه وسلم: “من لا يدْعُ الله يغضَبْ عليه” (أخرجه الحاكم)، أي بما هو قد استغنى عن الله، فكأنما الحديث تفسير للآية. ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: “سلوا الله كلَّ شيء حتى الشِّسْعَ، فإن الله عز وجل إن لم ييسّره لم يتيسّر”.(1) وهو تعبير بليغ عن حقيقة التوحيد وإخلاص الدين لله عقيدةً وعملا.
وليس عبثا أن يقص علينا القرآن الكريم أحوال الأنبياء والمرسلين في تحقيق هذا المعنى العظيم، وينقل إلينا عباراتهم الرقيقة، ومواجيدهم الجميلة، في مناجاة الله، والابتهال إليه رَغَباً ورَهَباً. وإنما كانت تربية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه بتعليمهم اللجوء إلى الله في اليسر والعسر تحقيقا لهذا المعنى من الإخلاص والتعرف إلى الله بصدق.
ثم إن العبد إذ يغفل عن ربه تثقل نفسه ويضيق صدره بما يقع له من غرق في أوحال النفس وأدخنة الشيطان، فيحتاج إلى لحظات للتصفية، يجأر فيها إلى الله بالدعاء مستغيثا ومستعينا، حتى إذا انخرط في سلك المواجيد السائرة إلى الله بصدق تدفق عليه شلال الرحمة شفاءً وعافيةً فتنهض روحُه يَقِظَةً قويةً.. تستعيد عافيتها، وتسترد صفاءها بإذن الله. فمن ذا يستغني عن دعاء الله إلا جاهل بالله!؟
الأسماء الحسنى بين التجلي والخفاء
اهتم العلماء كثيرا -سلفُهم وخلفُهم- بقضية الأسماء الحسنى في سياق التعبد بها دعاءً وابتهالا إلى الله جل علاه نظرا لجلال أسرارها وجمال أنوارها، ولِمَا ورد في ذلك من الأمر في كتاب الله، من مثل قوله تعالى: ﴿وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأعراف:180)، وقوله سبحانه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾(الإسراء:110)، وما صح في السنة النبوية الشريفة من قوله عليه الصلاة والسلام: “إن لله تسعة وتسعين اسما -أعطى مائة إلا واحدا- من أحصاها دخل الجنة، إنه وِتْرٌ يحب الوِتْرَ” (متفق عليه)، وفي رواية: “من حفظها دخل الجنة” ورُوِيَ أيضا بصيغة: “إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما -مائة غير واحد- لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر” (متفق عليه). وما ذلك كله إلا لأنها مدخل عظيم للتعرف إلى الله تعالى، والعروج إليه سبحانه عبر مقامات معرفته ومنازل محبته للفوز بكرم ولايته.
المراد بحفظ الأسماء وإحصائها
غير أنه تنتصب بين أيدينا ههنا قضيتان: الأولى تتعلق بمفهوم الحفظ أو الإحصاء الوارد في الحديث، والثانية تتعلق بمسألة عد هذه الأسماء وتعيينها. فأما القضية الأولى -وهي الراجعة إلى المقصود بمعنى الحفظ والإحصاء- فقد سبق لنا كلام عنها في غير هذا الموطن نلخصه كما يلي: وذلك أنه “قد ذهب أغلب العلماء -ما سترى بحول الله- إلى أن “الحفظ” هنا هو بمعنى حفظ المقتضيات من الأفعال والتصرفات، لا حفظ العبارات فقط، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك” (رواه أحمد والترمذي). والمقصود بحفظ المقتضيات توقيع كل أعمالك وتصرفاتك بما تقتضيه دلالاتها من حدود والتزامات.
فمثلا إذا انطلق العبد في طلب رزقه واكتساب قوته فإنما يفعل ذلك باسمه تعالى “الرزاق”، ومعناه أن يعتقد ألا رزق يصل إليه إلا ما كتب الله له، ثم ألاّ مانع له منه وقد كتبه الله له، ويكون لهذا -إن صح اعتقاده فيه- أثره الإيماني، يجتهد كل يوم في تحصيله، فلا يساوم في دينه مقابل مال، عطاءً أو حرمانا، إذ وجد في معرفته باسم “الرزاق” أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وهو قصد من مقاصد حفظ “الاسم” من أسمائه الحسنى؛ الثبات على ذلك أمام الفتن، لا تزحزحه المضايقات ولا المناوشات ولا التهديدات، ولا تذهب به الوساوس كل مذهب، بل يسكن إلى عقيدته مطمئنا آمنا من كل مكروه، إلا ما كان من قدر الله، موقنا أن الله لا يريد به إلا خيرا. فذلك أمر المؤمن الذي ليس إلا لمؤمن، والمؤمن أمره كله له خير كما في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: “عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابته سراء شكر وكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له” (رواه مسلم).
إنها عقيدة السلام والأنس الجميل بالله. وبقدر ما تسكن النفس إلى اسمه تعالى “الرزاق” يذوق العبد من معنى “الحفظ” جمالا حميدا، وأنسا جديدا، فتعلو القدم بذلك في مراتب العبودية، وتوحيد الألوهية مقامات أخرى. والربانيون في “حفظ” كل اسم من أسمائه الحسنى -بهذا المعنى- مراتب ومنازل. وبذلك يمتلئ القلب حبا لجمال أنواره وجلال إفضاله تعالى، فيزداد شوقا إلى السير في طريق المعرفة الربانية، التي كلما ذاق منها العبد جديدا ازداد أنسا وشوقا، فلا تكون العبادة -بالنسبة إليه حينئذ- إلا أنسا، وراحة، ولذة في طريق الله، إذ تنشط الجوارح للتقرب إليه تعالى بالأوقات والصلوات والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرات، والدخول في سائر أعمال البر الصالحات. ولك في أسماء الله الحسنى -من كل ذلك- مسالك تقربك إلى الله سبحانه وتوصلك إليه.
هذا هو الفهم الأليق بحديث الأسماء الحسنى، وهو ما ذهب إليه أغلب شراح الحديث عند تعرضهم لذلك؛ ومن هنا قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: “وقال الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد العمل بها. وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل، والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها”(2). وقال أيضا: “وهو أن يعلم معنى كلٍّ في الصيغة، ويستدل عليه بأثره الساري في الوجود، فلا تمر على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء، وتعرف خواص بعضها (…) قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال: وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن؛ بما يقتضيه كل اسم من الأسماء”.(3)
ذلك هو الشأن بالنسبة لسائر أسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن المهيمن… إلخ. فكلها “حسنى” بصيغة التفضيل المطلقة هذه، أي لا شيء أحسن منها، فهي تبث النور والسلام والجمال، في طريق السالكين إليه تعالى بحفظها، وتملأ قلوبهم إيمانا وإحسانا”.(4)
عَدُّ الأسماء وتعيينها
وأما القضية الثانية وهي الراجعة إلى إشكال عَدّ هذه الأسماء وتعيينها صيغةً وعبارةً، الواحدة تلو الأخرى إلى تمام التسعة والتسعين؛ فإنها محط خلاف بين كثير من العلماء، خاصة وأنه لم يرد في ذلك حديث صحيح يسردها جميعا ويعينها بذاتها، وقد ضعف العلماء ما أخرجه الترمذي وغيره من الحديث الوارد في سردها وإحصائها. إلا أنه لا يكون عبثا أن يكلف الله ورسوله -ندبا أو إيجابا- بأمر مُقَدَّرٍ على وجه التحديد، ويبقى مع ذلك مجملا غير قابل للتطبيق والتحقيق، هذا خُلْفٌ، بل هو ممتنعٌ وجودُه في الشريعة، وهو يتخرج على القاعدة الأصولية القاضية بأنه: “لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت الحاجة”.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: “إن لله تسعة وتسعين اسما -أعطى مائة إلا واحدا- من أحصاها دخل الجنة” فهو نص في عدد هذه الأسماء، بما يعني أنها أسماء محصورة محددة من بين عدة أسماء أخرى غير مقصودة بالعد ولا الإحصاء في خصوص هذا التكليف. والسياق ههنا قاض بأن العدد “تسعة وتسعين” لا يخرج عن ظاهره بل هو عدد حقيقي مقصود، فقد قال: “أعطى مائة إلا واحدا” لتأكيد ظاهر العدد مما يجعله نصا على معناه بلا منازع. وإذن لم يبق إلا شيء واحد، وهو أن هذه الأسماء موجودة فعلا، يمكن الاشتغال بها دعاءً وتعبداً، وليست من قبيل المجهول غير المبيَّن، وأن الندب مُتَوَجِّهٌ إليها حقيقةً لِمَا عُلم من أن الإتيان بها إحصاءً وعدّا وحفظا ممكنٌ شرعا وعقلا. فأين هي إذن؟
الجواب بسيط: إنها جميعها في كتاب الله، فمن قرأ القرآن كله أدركها قطعا. نعم، المشهور أن ما ورد منها في الكتاب -مما هو متفق عليه- إنما هو نحو الثمانين اسما، على اختلاف في العد.(5) وهذا راجع إلى قضية معنى “الاسم”، وما المقصود منه؛ هل لابد في عد الأسماء الحسنى وإحصائها من عبارة مفردة على جهة التسمية العَلَمِيَّةِ؛ أم يمكن في أسماء الله الحسنى بصفة خاصة الوصول إليها عَدّاً وإحصاءً وحفظاً من خلال مفاهيمها ومعانيها دون عباراتها المفردة؟
ذلك ما نرجحه، وهو أن بركة الاسم قد تحصل للعبد من خلال الوصول إلى مفهومه دون عبارته المفردة، لكن على أساس ألا يزعم المرء أن الاسم من الأسماء الحسنى هو هذه العبارة بالذات أو تلك، ولكن له فقط أن يقول: إنه ههنا في هذه الآيات، أي أن مفهومه متضمن فيها، على غرار ما ورد في معنى “اسم الله الأعظم” من النصوص، كما سترى بعد قليل بحول الله. إذ قد تكون حقيقة الاسم من أسماء الله الحسنى مضمنة في عدة آيات أو عدة جمل، وليس بالضرورة في لفظة واحدة مفردة، ويكون ذلك الاسم مما أعطى الله لعباده، أي ضمن التسعة والتسعين.
ولنا في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دليل، فقد صح في أحاديث الاسم الأعظم أنه قد يكون عبارة عن عدة أسماء، أو عدة صفات، أو عدة كلمات، أو عدة جمل، في عبارات مختلفة، قد تتداخل معانيها وتتقاطع، وقد تختلف اختلاف تكامل؛ بما يوحي أن للاسم الأعظم عدة تجليات. فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: “اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب في ثلاث سور من القرآن: في البقرة، وآل عمران، وطه” (رواه ابن ماجه والطبراني).
وقال صلى الله عليه وسلم بشيء من التفصيل: “اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة:163)، وفاتحة آل عمران: ﴿الم * اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(آل عمران:1-2) (رواه أحمد وأبو داود). وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، فقال: “لقد سألتَ الله بالاسم الأعظم، الذي إذا سُئِلَ به أعطَى، وإذا دُعِيَ به أجاب” (رواه أبو داود والترمذي).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بأبي عياش زيد بن الصامت الزرقي وهو يصلي وهو يقول: اللهم إني أسألك بأنْ لكَ الحمدُ، لا إله إلا أنت، يا حَنَّانُ، يا منَّانُ، يا بديعَ السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد سألتَ الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى” (رواه أحمد وابن ماجه). فهذا كله دال على أن الاسم الأعظم ليس بالضرورة عبارة واحدة، بل قد يكون كذلك، وقد يكون في عدة عبارات من عدة أسماء أو عدة صفات، كما رأيت في النصوص الصحيحة الواردة قبل. ومن هنا نرجح أن بعض الأسماء الحسنى هي أيضا قد تكون لها تجليات شتى في كتاب الله تعالى. وهي غالبا ما تكون واردة في الآيات والسور التي يصف الله فيها نفسه، مما يتعلق بشؤون ربوبيته، وكمال ألوهيته، وعظيم قدرته تعالى، من الخلق والأمر والقيومية والهداية، وما يحق له بعد ذلك على خلقه من إفراده تعالى بالخضوع له والعبودية رَغَباً ورَهَباً؛ مما ورد في سياق الأمر بعبادته توحيدا وتفريدا. كل ذلك وما في معناه مما هو وارد في القرآن الكريم متضمن لأسمائه الحسنى وصفاته العلى. ونحن نرجح أنه ما من اسم من الأسماء المقصودة بالعد والإحصاء والحفظ على ما ورد في الحديث المتفق عليه إلا وهو منصوص عليه في القرآن الكريم، بهذا المعنى الذي ذكرنا للأسماء إن شاء الله. وقد حرص غير واحد من علماء السلف والخلف على استخراجها من القرآن على ترجيح أن سياق الأية: ﴿وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾(الأعراف:180) يفيد أنها كذلك. وإلى هذا ذهب غير واحد من أهل العلم، فقد قال القرطبي في كتابه الأسنى في شرح الأسماء الحسنى: “العجب من ابن حزم، ذكر من الأسماء الحسنى نيفا وثمانين فقط، والله يقول: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(الأنعام:38)”.(6)
علماء تتبعوا الأسماء من القرآن
وقال ابن حجر في فتح الباري: “وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعا، فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد. فروينا في كتاب المائتين لأبي عثمان الصابوني بسنده إلى محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن. وكذا أخرج أبو نعيم عن (…) محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين: “سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى فقال: هي في القرآن” وروينا (…) عن حبان بن نافع، عن سفيان بن عيينة الحديث، يعني حديث: “إن لله تسعة وتسعين، أعطى..”، قال: فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن فأبطأ، فأتينا أبا زيد فأخرجها لنا، فعرضناها على سفيان، فنظر فيها أربع مرات، وقال: نعم هي هذه”.(7)
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير: “وقد عاودت تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حررتها منه تسعة وتسعين اسما. ولا أعلم من سبقني إلى تحرير ذلك. فإن الذي ذكره ابن حزم لم يقتصر فيه على ما في القرآن، بل ذكر ما اتفق له العثور عليه منه، وهو سبعة وستون اسما متوالية، كما نقلته عنه، آخرها “الملك”، وما بعد ذلك التقطه من الأحاديث. وقد رتبتها على هذا الوجه لِيُدْعَى بها:
“الإله، الرب، الواحد، الله، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الحي، القيوم، العلي، العظيم، التواب، الحليم، الواسع، الحكيم، الشاكر، العليم، الغني، الكريم، العفو، القدير، اللطيف، الخبير، السميع، البصير، المولى، النصير، القريب، المجيب، الرقيب، الحسيب، القوي، الشهيد، الحميد، المجيد، المحيط، الحفيظ، الحق، المبين، الغفار، القهار، الخلاق، الفتاح، الودود، الغفور، الرؤوف، الشكور، الكبير، المتعال، المقيت، المستعان، الوهاب، الْحَفِيُّ، الوارث، الولي، القائم، القادر، الغالب، القاهر، البر، الحافظ، الأحد، الصمد، المليك، المقتدر، الوكيل، الهادي، الكفيل، الكافي، الأكرم، الأعلى، الرزاق، ذو القوة، المتين، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، ذو الطول، رفيع الدرجات، سريع الحساب، فاطر السماوات والأرض، بديع السماوات والأرض، نور السماوات والأرض، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام”.
[ثم قال:] تنبيه: في قوله “من أحصاها” أربعة أقوال، أحدها: “من حفظها”، فسره به البخاري في صحيحه (…) ثانيها: من عرف معانيها وآمن بها. ثالثها: من أطاقها بحسن الرعاية لها وتخلق بما يمكنه من العمل بمعانيها. رابعها: أن يقرأ القرآن حتى يختمه؛ فإنه يستوفي هذه الأسماء في أضعاف التلاوة. وذهب إلى هذا أبو عبد الله الزبيري. وقال النووي: الأول هو المعتمد. قلتُ(8): ويحتمل أن يراد من تتبعها من القرآن، ولعله مراد الزبيري”(9).
صحيح أن السنة النبوية ورد فيها من الأسماء الحسنى والصفات العلى الشيء الكثير، مما يربو -إذا أضيف إلى الأسماء المفردة المنصوصة في القرآن- على عدد التسعة والتسعين بكثير. ولذلك فقد وقع الخلاف في أيها المقصود بالإحصاء -في الحديث المذكور- مما لم يقصد، بيد أن منهج القرآن قائم على أن عظائم الأمور من أمهات الفضائل وأمهات الرذائل؛ يكون عادة مما نص عليه الله -جل علاه- في القرآن. وإنما يرد في السنة تفصيل طريقة العمل به، أو بيان فضله. وبما أن القرآن هو أعظم كتاب في التعريف بالله ربا وإلها -وتلك من أهم مقاصده العظمى- فلا يعقل أن يخلو من أمهات الأسماء الحسنى، لاسيما وأن الله عز وجل نَصَّ في غيرما موطن من كتابه على أهميتها، وعلى طلب الدعاء بها كما مر في قوله تعالى: ﴿وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأعراف:180).
فإذا قيل أين هي؟ قلنا إنها فيما نص الله تعالى عليه من الأسماء المفردة في القرآن، من مثل قوله تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالاَرضِ وهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيمُ﴾(الحشر:22-24)، ثم إنها أيضا حاضرة في كل آية وصف الله تعالى بها نفسه، إذْ كل ذلك أيضا متضمِّن لمعنى الاسم، كما في قوله تعالى من سورة آل عمران: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(آل عمران:26-27).
فهذه الآيات العظيمة متضمنة لعدد من مفاهيم الأسماء الحسنى، وهي وإن لم ترد بصيغٍ عَلَميّة أو عبارات مفردة إلا أنها عميقة الدلالة جدا على عرض جانب من عظمة الله تعالى وكمال قدرته على كل شيء بما يحيل على مفاهيم لأسماء حسنى واردة على سبيل العَلَمِيَّةِ الصريحة في مواطن أخرى من الكتاب والسنة كأسمائه تعالى: “المالك، والملِك، والحي، والقيوم، والقدير، والقادر، والخالق، والرزاق” ونحو ذلك كثير…
فمن سأل الله بمثل هذه المواطن من القرآن مُضَمِّناً في دعائه نصوصَ الآيات -كما مر في بعض أحاديث الاسم الأعظم الثابتة- أدرك الأسماء الحسنى المقصودة جميعا إن شاء الله. ومن أضاف إلى ذلك ما صح من السنة النبوية من الأسماء كان -بإذن الله- أعمَّ وأشمل وأحوط لمن قصد إحصاءها إحصاءً وإن لم يكلف نفسه عناء العد الحرفي والاستقراء اللفظي. فإذا بنى ذلك كله على ما ذكره الشراح من معنى الحفظ -بما هو التحقق والتخلق بمقتضياتها- رَجَا أن ينال وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفوز بالجنة، وإنما الموفق من وفقه الله.
_______________
الهوامش
(1) قال الألباني: “أخرجه ابن السني رقم: 349، بسند حسن”. والشِّسْع: أحد سُيُور النعل، مما يعقد به.
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 11/226، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب.
(3) فتح الباري، 11/226- 227.
(4) بلاغ الرسالة القرآنية للمؤلف: 53-55.
(5) عدها الشيخ العثيمين رحمه الله في كتابه (القواعد المثلى) “واحدا وثمانين اسما” بإضافة اسم “الحفي” أخذا من قوله تعالى حكايةً لقول إبراهيم لأبيه: ﴿قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾(مريم:47). وواضح أن سياق الآية لا يسعف في الدلالة العَلَميّة على هذا اللفظ لعدم إطلاقيته. وقد تردد فيه ابن حجر من قبلُ رغم عده إياه.
(6) نقلا عن تلخيص الخبير في أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر العسقلاني، 4/173، تحقيق عبد الله هاشم اليمني المدني. ط. 1964/1384، المدينة المنورة.
(7) فتح الباري:11/217.
(8) القول لابن حجر.
(9) تلخيص الحبير: 4/173-174
من موقع مجلة حراء