أ.د. الصفصافي أحمد القطوري
هو “أورخان بن عثمان الغازي” ثاني أبناء الأمير “عثمان” مؤسس الدولة العثمانية، وهو ثاني سلاطين آل عثمان. وُلد في الأول من المحرم 687هـ، 6 من فبراير 1288م، وكان أبوه “عثمان” حريصا على إعداده لتولي المسؤولية ومهام الحكم. فكان كثيرا ما يعهد إليه بقيادة الجيوش التي يرسلها لفتح بلاد الروم، كما حدث في سنة (717هـ، 1217م) عندما أرسله لحصار مدينة “بورصة” (مدينة في آسيا الصغرى)، فحاصر أورخان القلاع المحيطة بها، وظل محاصرا لها قرابة عشر سنوات، ولما تأكد حاكمها أنها أصبحت في قبضة أورخان سلَّمها إليه، فدخلها دون قتال سنة (726هـ، 1325م)، ولم يتعرض أورخان لأهلها بسوء مما جعل حاكمها يعلن إسلامه، فمنحه أورخان لقب “بك”.
ولم يكد أورخان يتمُّ فتح مدينة “بورصة” حتى استدعاه والده الذي كان على فراش الموت ولم يلبث أن فارق الحياة بعد أن أوصى له بالحكم من بعده في 2 من رمضان 726هـ، 2 من أغسطس 1325م وأوصاه وصيَّة تاريخية جاء فيها:
“يا بني!.. أَحِط من أطاعك بالإعزاز، أنعم على الجنود.. لا يَغُرَّنك الشيطان بجندك ومالك.. إياك أن تبتعد عن أهل الشريعة. يا بني!.. إنك تعلم أن غايتنا الأسمى هي إرضاء رب العالمين..وبالجهاد يعلو نور ديننا الحنيف، وترفرف راياته في كل الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله. يا بني!.. اعلم أننا لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحرب شهوةً في الحكم أو سيطرة أفراد.. فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت.. وهذا يا ولدي ما أنت أهل له”.
ولم يعارض “علاء الدين، الابن الأكبر لعثمان غازي هذه الوصية، بل قبلها مقدما الصالح العام على الصالح الخاص، بالإضافة إلى أنه كان يميل إلى العزلة ودراسة الفقه، في حين اتصف أورخان بالشجاعة والإقدام.
ولقد نفذ السلطان أورخان وصية والده أحسن تنفيذ؛ أقام أول جامعة إسلامية في الدولة، وأول جيش نظامي. وعندما تولى السلطة نقل مقر الحكومة إلى مدينة “بورصة” الشهيرة لحسن موقعها، وجعلها عاصمة لدولته، وبنى بها جامعا ومدرسة وتكية يقدم فيها الطعام للفقراء والغرباء، كما ولى أخاه “علاء الدين” الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء). فاختص “علاء الدين” بتدبير الأمور الداخلية، وتفرغ أورخان للفتوحات الخارجية، وبهذا يُعد “علاء الدين” أول وزير في تاريخ الدولة العثمانية. فأمر بضرب النقود الفضية باسم أورخان، وكان أحد وجهي العملة يحمل عبارة “خلَّد الله ملكه”، والوجه الآخر يحمل اسم الأمير.
وفيما يتعلق بتنظيم الجيش، فقد حرص السلطان أورخان في بادئ الأمر على تأليف جيش من الأتراك أنفسهم، وكانت الدولة تدفع لهم الرواتب، ولكن هذه الخدمة العسكرية -التي لم يكن للأتراك عهد بها من قبل- حملت الناس على المغالاة في مطالبهم، فاقترح “جاندرلي” –الذي يعرف بـ”قَرَهْ خليل”، وهو أحد قواد الجيش– إحياء التشريع الإسلامي الذي يقضي بأن يحتفظ بيت مال المسلمين بخمس الغنائم، وعزل الأولاد من أسرى الحرب، وتربيتهم تربية إسلامية خالصة تحثهم على الجهاد في سبيل الله. فوافق السلطان أورخان على هذا الاقتراح، وأعجب به، ودعا إلى تنفيذه، وإعداد هذا الجيش الجديد.
وأما مدة حكم أورخان فتنقسم إلى فترتين؛ الأولى من سنة (726هـ، 1325م إلى سنة 743هـ، 1342م). وفيها اهتم بتوطيد دعائم الحكم العثماني في “آسيا الصغرى”، وإنشاء الجيش الجديد “الإنكشاري”، وتأسيس الدولة. والثانية من سنة (743هـ، 1342م إلى سنة وفاته 761هـ، 1359م). وكان يستعد فيها لتثبيت قدمه في “شبه جزيرة تراقيا”، و”مقدونيا”، ونشر سلطانه على أرض أوروبا. وقد تمكن أورخان أيضا من فتح “جزيرة بيثنيا”، وقلعتي “سمندرة” و”آيدوس”، وهما قلعتان إستراتيجيتان تحرسان الطريق الحربي الواصل بين “القسطنطينية” – عاصمة الإمبراطورية البيزنطية آنذاك و”نقومكيدية” التي فتحها أورخان في سنة (727هـ، 1326م). ثم تمكن من فتح بلاد “قره سي” في سنة (736هـ، 1335م)، وكانت معاملته الطيبة لأهل هذه المدن سببا في اعتناقهم الإسلام.
ولمَّا اتسع ملك الدولة العثمانية، تفرَّغ أورخان لترتيب البلاد وتنظيمها، وسنَّ القوانين اللازمة لاستتباب الأمن، وانتشار العمران في أنحاء الدولة العثمانية كافة. وعندما زار الرحَّالة المعروف “ابن بطوطة” بلاد الأناضول في فترة حكم السلطان أورخان وقابله هناك، قال عنه: “إنه أكبر ملوك التركمان، وأكثرهم مالا وبلادا وعسكرا، وإن له من الحصون ما يقارب مائة حصن، يتفقدها ويقيم بكل حصن أياما لإصلاح شؤونه”.
وبفتح إمارة “قره سي” اقترب أورخان من الإمارات الأوربية التابعة للإمبراطورية البيزنطية، فدخلت مدن الثغور البحرية في طاعته صيانة لتجارتها، كما استنجد الإمبراطور البيزنطي “جان باليولوج” بالسلطان أورخان، وأرسل إليه سنة (756هـ، 1355م) يطلب إليه الدعم والمساعدة لصد غارات ملك الصرب “إستيفان دوشان” الذي أصبح يهدد “القسطنطينية” نفسها. فأجاب أورخان طلبه، وأرسل إليه جيشا كبيرا. لكن “دوشان” ملك الصرب عاجلته المنية، فعاد العثمانيون من حيث أتوا دون قتال.
ولمَّا تيقن العثمانيون -بعد عبورهم للشاطئ الأوربي- من حالة الضعف والانحلال التي حلَّت بالإمبراطورية البيزنطية، شرع أورخان في تجهيز الكتائب سرا، لاجتياز البحر وفتح بعض النقاط على الشاطئ الأوربي، لتكون مركزا لأعمال العثمانيين في أوروبا. وفي سنة (758هـ، 1357م) أمر السلطان أورخان ابنه سليمان بعبور مضيق “الدردنيل”، وكان معه أربعون من أشجع جنوده، فتمكنوا من الاستيلاء على ما كان بها من السفن والقوارب، وعادوا بها إلى الضفة الشرقية، حيث حشدوا فيها 30 ألف جندي، تمكنوا من دخول مدينة “تزنب”. كما ساعدتهم الظروف على فتح مدينة “غاليبولى” -التي تبعد عن القسطنطينية بحوالي (86.5) ميلاً- إثر زلزال أصاب المدينة، فدخلها العثمانيون، وفتحوا عدة مدن أخرى، منها “أبسالا”، و”ردوستو”، وبنوا العديد من المساجد.
وتوفي الأمير “سليمان” سنة (760هـ، 1359م)، وفي العام التالي (761هـ، 1360م) توفي السلطان أورخان، والذي يُعَدُّ أول سلطان عثماني امتد ملكه إلى داخل أوروبا. وكانت مدة ملكه خمسا وثلاثين سنة. وكان رحمه الله ملكا جليلا، ذا أخلاق حسنة وسيرة طيبة وكرم وافر… عمل على استقرار الدولة العثمانية بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة، وحرص كل الحرص على تنفيذ وصية والده عثمان مؤسس الدولة العثمانية. ودُفِن في مدينة “بورصة” عاصمة الدولة العثمانية، وتولَّى بعده ابنه السلطان مراد الأول.
من موقع مجلة حراء