عمر نور الدين
تتابعت خلال الأيام القليلة الماضية تصريحات للرئيس رجب طيب أردوغان لتثير قدرا كبيرا من الجدل ليس في تركيا وحدها بل خارجها أيضا وتحديدا في العديد من دول الشرق الأوسط والدول العربية التي لم تكن غارقة تماما كدول الغرب في هذه الأيام في احتفالات رأس السنة واستقبال العام الجديد حيث تتراجع السياسة قليلا أمام بهجة الأعياد.
سأتوقف فقط أمام تصريحين لأردوغان عن الشغل الشاغل الذي يملك عليه كل أمره هذه الأيام ألا وهو أولا النظام الرئاسي في تركيا وثانيا إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل إلى ما كانت عليه قبل 31 مايو/ آيار 2010 تاريخ قصف إسرائيل السفينة مافي مرمرة في المياه الدولية شرق البحر المتوسط وقتل 9 مواطنين أتراك على ظهرها في إطار إسطول الحرية لغزة..
في القضية الأولى يجري التحضبر على قدم وساق لصياغة دستور جديد لتركيا يقلب نظامها من النظام البرلماني إلى الرئاسي ذي النكهة التركية التي كشف أردوغان أخيرا عن أنها يمكن أن تكون نكهة تركية لكن شبيهة بالنظام الرئاسي في ألمانيا في زمن هتلر .. أخيرا وبعد أن تنقل أردوغان بين العديد من التجارب الرئاسية في العالم لإعطاء الأمثلة على أهمية النظام الرئاسي” الضرورة” لتركيا وتبريره .. اختار أخيرا أن يعيد إلى الأذهان نظام الفوهرر النازي كأحد الأنظمة الرئاسية المنضبطة والمتقنة التي تصلح للدول المركزية.
ولأن التشبيه كان صعبا وصادما، رغم أن أردوغان استشهد مرارا من قبل بألمانيا في زمن هتلر، تحركت الرئاسة التركية لمحاولة التخفيف من وقعه وقالت إن اردوغان لم يقصد ما ذهبت إليه بعض وسائل الإعلام ” المغرضة بين قوسين” التي قالت إن أردوغان يمتدح نظام النازي ويريد تطبيقه في تركيا ليصبح هو “فوهرر” العصر الجديد.
لن نقول إن هذه زلة لسان أو حديث بلا وعي أسره أردوغان إلى مجموعة من الصحفيين المرافقين له في طريق عودته من زيارة المملكة العربية السعودية. لكنه تصريح كاشف يعكس الحقيقة، فتركيا الآن هي أشبه بألمانيا في عهد النازي، فالإعلام كله يكاد يكون صوتا واحدا ينطق بما يملى عليه، والأقلام الحرة قصفت وغيب أصحابها وراء القضبان، والقانون دهس وسوي بالأرض تماما عبر تغيير بنية المجلس الأعلى للقضاء واستحداث محاكم ذات أحكام غير قابلة للطعن عليها هي محاكم الصلح والجزاء، وتجري حملات التفتيش والمصادرة والتشريد والقمع قائمة على قدم وساق، والدولة العميقة تمارس دورها على أكمل ما يكون في مناخ لم تكن لتحلم به من قبل، وآلة الدعاية السوداء للإعلام الموالي للحكومة والرئيس تشوه من تريد وتقضي على سمعة الأبرياء بحملات الافتراء والأكاذيب ولا تخجل حتى إذا افتضح أمرها لكنها تواصل الكذب الكبير المتتابع على طريقة جوبلز.
لم يقل أردوغان غير الحق في تصريحاته التي تستدعى نظام هتلر .. لأن ملامحه أصبحت بارزة جدا في تركيا الجديدة ولم يبق غير تنصيب الفوهرر وتقديم فروض الولاء والطاعة له.
إذن لم يقل أردوغان غير الحق.. وعلى المشكيين والمولعين بالتفتيش فيما وراء الكلمات ومحاولة تشويه ما يجري الإعداد له في تركيا، وهم” قلة منحرفة” بحسب التوصيف السلطوي، أن يمتنعوا عن محاولة الجهر بآرائهم لأنه في الغد القريب لن يكون لهم ولو شبر واحد من الحرية أو القدرة على الكلام .. فاصمتوا وقولو ” آمين”.
القضية الثانية التي شغلت الرأي العام في تركيا ومنطقة الشرق الأوسط مع أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي وأعطت بعض السخونة للأحداث في هذا الجو الضبابي الثلجي البارد، كانت المفاوضات السرية بين تركيا وإسرائيل لإعادة العلاقات فيما بينهما إلى طبيعتها.
ولأن كل شيئ في تركيا يبدأ وينتهي عند أردوغان .. فهو الذي وصف إسرائيل بالإرهابية والقاتلة وطلب دقيقة واحدة في دافوس للرد على رئيسها شيمون بيريز لكن الغرب المتآمر لم يمكنه من ذلك عبر الصحفي الذي كان يدير جلسة الحوار.. مرت السنون وآتت هذه العبارات النارية أكلها في تغييب عقول الناس في تركيا .. الذين فتنهم زعيم العالم ..
لقد قال أردوغان الحق عندما وصف إسرائيل بالدولة الإرهابية والقاتلة أو التي تجيد قتل الأطفال والنساء والشيوخ .. بدأ الأمر من عنده لأنه ينبغي أن يكون كذلك من أجل ملء صناديق الاقتراع بالأصوات المؤيدة للعدالة والتنمية..
ثم سربت إسرائيل يالتوافق مع مفاوضيها من تركيا في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر أو في أواخر العام 2015 أنباء الاتفاق المبدئي على إعادة العلاقات بعد مفاوضات سرية في سويسرا استغرقت 6 أشهر .. لكن البداية حتما لم تكن من عند إسرائيل .. لكنها كانت من عند الزعيم، الذي مهد للتسريب الإسرائيلي بقوله لأحد الصحفيين خلال مشاركته في قمة المناخ في باريس، وبالصدفة البحتة دون أن يعرف أنه من راديو إسرائيل، إن عودة العلاقات بين تركيا وإسرائيل هي لصالح منطقة الشرق الأوسط.. ولا تستعجبوا إذا كان تبين بالصدفة أن الصحفي من راديو إسرائيل، مع أن هناك صحفيين أتراك ممنوع عليهم الاقتراب أو التصوير في محيط تواجد أردوغان وأعضاء الحكومة التركية أو مؤتمرات حزب العدالة والتنمية الحاكم لأنهم من الكيان الموازي، المتهم بالخيانة والعمالة لإسرائيل.. لاتحاولوا أن تفهموا..
مرت هذه الواقعة .. لكنها كانت ضربة البداية التمهيدية للإعلان الإسرائيلي عن الاتفاق حول تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية..
إلى أن جاءت تصريحات أردوغان لدى عودته من السعودية أيضا، والتي قال فيها إنه يجب أن نعلم أن تركيا بحاجة لإسرائيل وإسرائيل بحاجة لتركيا، وطبعا كل ذلك من أجل صالح المنطقة.. هذه المنطقة نفسها التي تعاني الويلات منذ ظهر هذا الكيان وزرع في جسدها باغتصاب أراضي فلسطين وتمزيق الجسد العربي بالحروب والمؤامرات وإبقائه في حالة من الاقتتال الطائفي والمذهبي من أجل تحقيق الأمن لإسرائيل التي تحتاجها تركيا أردوغان والتي هي أيضا بحاجة لتركيا أردوغان .. بمعنى أن هناك مصالح مشتركة وحوارا يجب أن يقوم من أجل حل قضايا المنطقة التي لم تحل على مدى عقود .. لكنها تنتظر الوئام وشهر العسل بين تركيا وإسرائيل..
وبعد كل هذا ألا ترون أن أردوغان يقول الحق في جميع الأحوال .. لما لا وهناك فريق يصدقه في كل ما يقول .. حتى وإن خرج غدا ليقول إن الشمس ستشرق من الغرب.. انظروا إلى مرحلة مرحلة وستجدون أنه لا يقول إلا الحق بحسب مقتضيات كل مرحلة.. فعندما كانت المرحلة تقتضي مغازلة الشرق ورسم صورة للزعيم الأسطوري الذي سيعيد العزة للإسلام والمسلمين كانت إسرائيل دولة قاتلة وإرهابية.. وفي المرحلة الجديدة التي وجدت تركيا نفسها فيها مضطرة للعودة للارتماء في أحضان الغرب، لابد أن تكون إسرائيل هي الصديق والحليف وهي المكمل مع تركيا للحل في المنطقة، رغم أن الجميع في المنطقة يؤمنون بأنها المشكلة لا الحل.. وقطعا سيتماشى أنصار أردوغان في حركة حماس والمهللين له من منظري تيار الإسلام السياسي في المنطقة مع ما يقول وسيقولون حتما إن هذا التقارب مع إسرائيل سيخدم غزة وقضيتها وسيعتق الأقصى من ظلم اسرائيل بعد أن كانوا يصمون بالخيانة كل من يفتح فمه فقط بكلمة إسرائيل.. إذن فأردوغان يقول الحق .. فالمنطقة بحاجة إلى شهر عسل جديد بين تركيا وإسرائيل حتى تحل جميع مشاكلها .. عجبا.. لماذا لا تصدقون؟!