إن الحب والبغض في السياسة مثل التوأم الملتصق، فليس من الصحيح أن يصل الأمر بالناس إلى التعلق بحزبٍ أو بقائدٍ والارتباط به إلى حدِّ الجنون ولا يروا أي خطأ يقترفه. كما ليس من السليم أيضًا أن يضمروا لحزبٍ أو لقائدٍ العداوةَ ويتربصوا فرصةَ الإيقاع به، حتى وإن امتلأ داخله بالكراهية ولم يُحظَ بكسب ثقة وتقدير الجميع.
وحتى لا تنزلق أرجلنا في هذين المرضين، أي الإفراط في الحب أو البغض، فمن الأحرى بنا أن نسلك الطريق الآمن والمضمون، وهو عدم التخلي عن الإنصاف مطلقًا، ووصف الصواب بأنه صواب والخطأ بأنه خطأ في حقل السياسة. ولعل الحادثة التي وقعت في العصور الأولى من التاريخ الإسلامي، بمثابة درسٍ مفيدٍ يبين لنا ما آلت إليه الأمور عندما يصل الأسلوب المتّبع في السياسة إلى حد الإفراط. ذات يوم رحل رجل عربي بجمله من الكوفة، المعروفةِ بكثرة أنصار سيدنا علي (رضي الله عنه)، إلى دمشق. وفي أثناء تجوُّله في أزقة دمشق تعلق به رجل من أهل دمشق، وقال: “هذه ناقتي أُخذت مني في صفين”. واحتدّ النقاش بينهما، لكن رغم دفاع الرجل الكوفي عن حقه قائلا: “إن هذا الجمل لي، فضلًا عن أنه جمل وليس ناقة كما تزعم”، لم يُجدِ دفاعه ذلك شيئاً. وبلغ أمرهما معاوية، فاستدعاهما ليحكم بينهما.
احتشد الناس في الميدان، وبعد أن استمع معاوية (رضي الله عنه) إلى الرجل الكوفي والدمشقي، قرر الآتي:
– إن هذه الناقة (الأنثى) للرجل الدمشقي!
ثم التفت معاوية إلى الحشد الذي يعجّ به الميدان وسألهم:
– أيّها الناس، لمن هذه الناقة (الأنثى)؟
فصاح الحشد في صوت واحد:
– الناقة للدمشقي!
وبينما كان الكوفي واقفًا مندهشًا إزاء ما رآه بعدما أُخذ منه جمله دون وجه حق، ناداه معاوية:
-اسمع أيها الكوفي! أنا وأنت نعلم أن هذا الجمل لك، وإنه جمل وليس ناقة. عندما تعود إلى الكوفة أبلغ عليًا أنني أقابله بمائة ألف، ليس فيهم من يفرّق بين الناقة والجمل، ولكنهم يقرّرون ما أقوله أنا، دون مساءلة، فكن حذرًا!”
تروي لنا هذه القصة المليئة بالعبر عواقبَ ما قد يحدث عندما تحلّ السياسة محل القيم الأساسية كالأخلاق والضمير والعدالة، ويعمي التعصب الحزبي أبصارنا إذا ما انحزْنا لفئة دون أخرى. ولا ريب في أن انقلاب التسلسل الهرمي للقِيم الأساسية على هذا الشكل؛ بمعنى الاعتزاز والتمسك بشيء هو في الأصل تافهٌ ولا قيمة له، والتغاضي عن كل ما هو قيّم، هو السبب الرئيسي في المشكلات التي نشهدها في العالم الإسلامي. أَوليس النظرُ إلى السياسة والتأييد الحزبي على أنهما دينٌ مثلًا نتيجةً لخلل تلك المقاييس والقيم؟ بيد أنّ العلاّمة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي أدرك – قبل مائة عام مضت – مدى العواقب الوخيمة التي سيتمخض عنها هذا الانحراف الواقع في المنظومة القيمية لدى المسلمين؛ فبين لنا الميزان الذي ينبغي علينا أن نتبعه بشكل مُبسَّط ومختصر:
“إن نسبة الأخلاق والعبادة وأمور الآخرة والفضيلة في الشريعة، تمثل تسعاً وتسعين بالمائة. بينما نسبة السياسة لا تتجاوز الواحد بالمائة. ولندَع التفكير فيها (أي السياسة) والاهتمام بها لأولي الأمر منّا”. (في كتابه: ديوان الحرب العرفي) وإذا قمتم بقلب وجه هذا المقياس وأنزلتم نسبة الأخلاق والعبادة والفضيلة إلى واحد في المائة، وأوليتم السياسة أهمية بنسبة تسعة وتسعين بالمائة؛ فستكونون بذلك قد هدمتم التسلسل الهرمي للقيم الإسلامية. وإذا كانت مقاييسكم وقيمكم متينة وسليمة؛ عندئذٍ لن ترتكبوا جناية أخلاقية مليئة بالكذب من أجل تحقيق مصالحكم السياسية. ولا تسرقون من أجل تحقيق مستقبل باهر، إنما تنتبهون للحلال والحرام في شؤونكم بمنتهى الدقّة. وتتجنبون الافتراءاتِ وانتهاكَ حقوق الأبرياء لتحقيق مطالبكم السياسية.
وفي التاريخ الإسلامي، فإن ما قاله سيدنا أبوبكر (رضي الله عنه) في أول خطبة ألقاها على الناس، حينما تولى الخلافة عقب وفاة رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، يلخّص لنا بشكل جذّاب كيف يجب النظر إلى الإدارة والسياسة في مجتمعٍ مقاييسُه الإسلامية سليمة: “أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء”.
فلنحاولْ أن نلقي نظرة على حملات الظلم والفوضى والسرقة والكذب والافتراء، والإطاحات خارج نطاق القانون التي تشهدها تركيا في الفترة الأخيرة من حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية. وهذه فرصة ذهبية لتعريف العالم أجمع بمقاييس الأخلاق والفضيلة الإسلامية، وليس تعريف مجتمعنا بها فحسب، وإن كان مؤلماً حقًّا أن نرى ضياع تلك المقاييس الأخلاقية بسبب تدمير المنظومة القيمية لدى الإدارة الحاكمة والشعب، إلا أن الدور الذي يقع على عاتقنا هو حمل تلك القيم إلى حياتنا كما يجب، وتذكير الآخرين بها كما ينبغي، وألا نضحّي بتسعة وتسعين في المائة من القيم والأخلاق من أجل واحد في المائة من السياسة.
ــــــــــــ
بقلم عبدالحميد بيليجي