إسطنبول (زمان عربي) – نقدم لكم جواب الأستاذ فتح الله كولن على سؤال يتعلق بالأزمة السورية والذي يتضمن الوصفة العلاجية التي قدّمها لكبار المسؤولين في الحكومة التركية ومخاوف الأستاذ من اندلاع حرب عالمية ثالثة إذا استمرت الأوضاع الحالية على هذا المنوال، وذلك خلال درس حمل عنوان: “فقدان العقلانية.. والقلق من اندلاع الحرب”.
سؤال: لقد ذكرتم قبل قرابة شهر أنكم قلقون بشأن احتمالية اندلاع حرب عالمية ثالثة.. فهل ما زال هذا القلق يساوركم حتى الآن؟
جواب الأستاذ فتح الله كولن:
نعم، ما زال يساورني؛ لأنه عندما يتمحوَرُ كلُّ شيءٍ حول المنافع الشخصيّة، ويتنازع عليها أصحابُها، ولا يتمكنون من الاتفاق حول قاسمٍ مشترك، ويشكو أحدُهم الظلمَ، ويتورَّطُ غيرُه في اغتصاب حقوق الآخرين، ويطالب آخرُ شيئًا فوق ما يستحقه.. فمن الصعب جدًّا أن تجد قاسمًا مشتركًا فيما بين هؤلاء الذين ابتعدوا عن الله ورسوله، ولم يبقَ من الإسلامِ عندهم إلا اسمُه، ولا من القرآن إلا رَسْمه. الواقع أنه من الممكن حتى لأناس عاديين من أمثالنا أن يقدّموا حلولًا بديلةً للمشكلات التي تعاني منها شتّى بقاع الأرض، إذًا فلماذا لا يتحرّك هؤلاء لمعالجةِ القضايا العالقة؟
وقد تحدثْتُ فيما مضى خلال عِدَّةِ مناسبات أنني عرضتُ على كبار المسؤولين في الحكومة التركية، وقدَّمتُ لهم حزمةً من الحلول للقضية السورية. ومع ما لِهذه القضيّة من أهميّةٍ كبرى؛ إلا أن هؤلاء المسؤولين لم يقبلوا هذا العرض، ولم يتفاعلوا معه، وذلك لِتَعَارُضِهِ مع مصالحهم الشخصية فقط. إنهم رأوا مصلحَتَهم في التصعيدِ واتّباع طريق تفاقم الأزمة. لذلك قالوا: “يجب علينا الإطاحة بالشخص الفلاني”. من هو؟! الشخص الذي كانوا يُبَجِّلُونه ويمدحُونه في الماضي. وهذا ظنًّا منهم أنّ هذا الأمرَ سيُضاعفُ شعبيَّتهم في العالم الإسلامي برمَّتِهِ، وسيكون لهم موقف عظيم وسيُشارُ إليهم بالبنان، وسيقولُ الناس عنهم: “انظروا إلى هؤلاء! لقد استطاعوا إسقاط نظامٍ كاملٍ لمصلحة الفكر السُّنّي!” وهكذا قالوا “موتوا” لأناسٍ كانوا قبل ذلك يُبجِّلونهم ويُصفِّقون لهم. وقد طَرَحْنا على المسؤولين حلًّا لهذه الأزمة؛ إلا أنهم قابلوه بالرفضِ؛ لأنه لم يكن هناك قاسم مشترك في الأهداف المنشودة.
الديمقراطية لا تأتي إلى بلدٍ ما فجئة ودفعةً واحدة، فكلُّنا يتذكَّرُ كيفَ أنَّ تركيا تحوَّلت إلى النظام الديمقراطي بدءًا من عام (1946م)، مع أن عمليّة الاقتراع كانت تتمُّ في البداية بشكلٍ علنيٍّ وعمليةَ الفرز بشكلٍ سرِّيٍّ، إلا أنه كان من المؤكَّد أنه إذا سلكت البلاد هذا المسلك ووضَعَت رجلَها على أوَّلِ الطريق فسيأتي يوم تقرّ فيه الديمقراطية المنشودة،كما في البلاد الديمقراطية حقًّا. لأنّه لا يمْكِنُ لِأَحَدٍ أن يخدعَ الضمير العام. وعندما وصلنا إلى عام (1950م) تأسَّسَ النظام الديمقراطي بشكل تام، واستمرَّ قرابة عشر سنوات حتى انقطعَ بتدخُّلٍ عسكري عامَ (1960م) وقد شاهدنا في الأعوام اللاحقة تدخُّلات عسكرية أيضًا. إلا أن الديمقراطية واصلَتْ مسيرتها على كل حال.
وقياسًا على ما حصلَ عندنا فلقد قُلْنَا للمسؤولين: ادعموا من يحكمون هناك. لأنني أذكر أن أبا هذا الرجل فيما بَثَّتْهُ وسائلُ الإعلام قتلَ حوالي ثمانين ألف نسمة في بداية الثمانينات في وقتٍ كان عددُ سكَّان تلك البلاد أحد عشر مليونًا أو اثني عشر مليونًا فقط. ثمانين ألف نسمة… طبعًا ليس كلّهم من الأطفال والمرضى والنساء. وإني عندما زرتُ حلب عام (1986م) قال الإخوة: الدبابات ما زالت في مواقعها. فإذا كان الوضع هكذا.. أي إذا كان من يحكمون في سوريا يفكرون في حلِّ القضيّة بالقوّة الغاشمة؛ فالعقلانيّة هي جعلُهم يتبنّون الديمقراطية بأسلوب فَطِنٍ وطريقة ناجحة. إن هذا كان يعني حلّ المشكلة دون تعقيدٍ للأمر. لم يُقَل ذلك لأبيه (حافظ الأسد)، لكن كان من الممكن أن يقال لابنه (بشار الأسد): “حوِّل النظام إلى الديمقراطيّة، ونحن والمتعاطفون معنا هناك سنؤيّدكم لِتُنْتَخَبوا أنتم في الانتخابات، وفي الانتخابات القادمة والتي بعدَها والتي بعدها… بشرط تحويل النظام إلى الديمقراطية”.
نعم، كان من الممكن أن يجرّب هذا، لكن عندما طرَحْنا هذا على المسؤولين في تركيا كان يُقرأ من نظراتهم: “إننا نمتَلِكُ من الخبرة ما يلزم، ولا نحتاجُ نصيحةً من أحد، فهل نتلقى نصيحةً من إمام مسجد؟!” فقد عرضنا عليهم وصفات كثيرة مثل هذه، إلا أنهم ردُّوها علينا في كل مرة. ذَكرها هذا القطميرُ لكثير من المسؤولين؛ إلا أنهم لم يلتفتوا إليها لأنني “قطمير”. فسلكتِ الدولةُ طريقًا خاطئًا.
واليوم أصبحت مشكلةُ اللاجئين ووجودهم في تركيا مشكلةً عالمية. وهلك كثيرٌ من الناس، حتى إن منهم من يحاول كسبَ قوته بطرقٍ غير عفيفة أو بالسرقة أو بالتسوّل. ولأن المشكلة لم تُحلّ في موطنها الأصلي كانت العاقبة والنتيجة هكذا، ففتحتم البوابات الحدودية، فاستفْزَزْتُم الجانب الآخر، وأثرتم غضبهم، فبدؤوا يُعادونكم وينهالون عليكم وعلى شعبهم كالكلب العقور. وتحوَّلت مشكلةُ دولةٍ عددُ سكانها زهاء عشرين مليونًا إلى مشكلةٍ عالمية. ترون حال العابرين إلى أوربا وهم في الطرق.. ترونَ حال هؤلاء الأبرياء، منهم الضعفاء والنساء والصبيان. إن هذا الوضع يُظهر عدم إدراكنا التامّ للمسائل؛ لأننا عندما نريدُ حلَّ مشكلةٍ إذا بِنَا نتسبَّبُ في مشاكلَ جديدة وجسيمة. إن عالجتم المسائل عن غير علم ودرايةٍ، فمثلًا إن استأصَلْتُم ورمًا في الجَسَدِ بِسِكِّين مهترئة؛ فإنكم سَتَتَسَبَّبُون -دون شعور منكم- في انبثاثِهِ وانتشارِهِ في كلِّ الجسمِ. فمثلاً، إن تدخَّلْتم في علاج غرغرينا على هذا المنوال؛ تسبَّبْتم في قطع الرِّجل من الألْيَة مع أنّه كان من الممكن قطعُها من الكعب فقط. لا بد من معالجة المسائل بالعلم والبصيرة والتأمُّلِ والإنصاف والإذعان وبالعقل الجماعي. كان بإمكانكم أن تحلّوا هذه المشكلة باستشارة أناسٍ ينظرون إلى القضايا بموضوعيّة وعقلانيّة اتباعًا للكتاب والسنة، إلا أنكم حاولتم حلّها عن غير علم ولا حذاقة، فعقَّدتم الأمرَ تعقيدًا يتعذّرُ حلُّه بعد ذلك.
نجد وراء هذه الأزمات تأثير أناس من “قبادوقيا”! فهم تسببوا في هذه المشكلة، استفزوا مستبدًّا، فراحَ ضحيةً لذلك كثيرٌ من الناس. إذ من المحتمل بعد ذلك أن يَفقد اللاجؤون إلى أوربا هويَّتَهم، وربما ستُحوَّل ديانةُ هؤلاء الأطفال، وما إلى ذلك من السلبيات الأخرى. فماذا حدث بعد؟! الدول العظمى لم تتدخَّل في الأمر، بل فكّرت في مصالحها التي تتعلَّق بالبترول والغاز. فلما رأت هذه الدول مصالحها الدنيوية تختلّ إنْ تدخَّلت في الحاكم هناك، ولما تناولتم أنتم (المسؤولون الأتراك) زمام المبادرة ليكسبوا شعبيّة وسمعة في المنطقة، استحالت مشكلةٌ دنيويةٌ محلّيّةٌ مشكلةً ملغزةً متشعّبةً، بحيث يصعب الآن حلُّها حتى على المتخصصين في علم الرياضيات.. يتعسّر وربما يتعذّر حلها. لذا فأنا القطميرُ قَلِقٌ من احتماليّة اندلاعِ حربٍ عالميّةٍ ثالثة.
والأمر الآخر أن هناك من يتشدّقون بتحدّيات وعنتريات كبيرة من كِلا الطرفين. اعذروني أنتم، ومن يغيب عن هذا المجلس، إن كان ما سأقوله الآن يؤذيكم: إن حلَّ المشاكل لا يتمُّ بمثلِ تصرفات “دُون كِيشُوت”! إنها لا تحلّ بمهاجمة طواحين الهواءِ، وإنما تجب معالجتها بالعقل والمنطق والإنصاف والإذعان. ندعو الله أن يمنحنا العقلَ والمنطقَ والمحاكمةَ العقليّة، ويوفِّقَنا للقضاء على هذه المشاكل، رغمَ أنها تبدو عويصةً وعصيبةً.
إن “برتراند راسل (Bertrand Russel)” يبدي رأيًا حول حربٍ عالمية ثالثة في كتابه: “معتقداتي”. تذكَّرُوا ما حدث في الحرب العالمية الأولى.. كانت آنذاك أيضًا أسلحة مدمرة، والآن توجد غازات سامّة لا أعرف حتى أسماءها. ونسمعُ أنها استُخْدِمَت في سوريا. والذين حملوا الأسلحةَ إلى هناك، وقدموا دعماً لوجستيًّا معروفون، المجرمون معروفون، وسوف يظهر أمرُهم تمامًا وسيحاسَبون على فعلهِم قريبًا.. وسيحاسَبون في المحاكم الدوليّة أمام الأشهاد.
إن حروب اليوم تختلِفُ كثيرًا عن الحروب الماضية. فمثلًا كنا نأخذ بندقية “ماوزر” في أيدينا في حرب “جناق قلعة”، ونهاجِمُ بها العدوّ، وأسلحةُ العدوِّ لم تكن تختلفُ عن أسلحتِنا كثيرًا، كانت لهم سفنٌ، وكانت لنا سفن، على الأقل سفن الألغام. إلا أنّ هذا كلّه كان موضعيًّا ومحلِّيًّا. أما الآن فليس كذلك. إذ أُلقيت على اليابان قنبلة ذرية سنة (1945م)؛ فما زالت آثارُها باقية حتى اليوم، حيث يُشاهَد تأثيرُها في الأجيال الجديدة على صورةِ أمراضٍ شتّى. واليوم تجاوز الأمرُ هذا بكثير. ومثلًا يقولون إن من قُتلوا في الحرب العالمية الثانية أربعون مليون نسمة، بيد أن اليوم لو اندلَعَتْ حربٌ عالميّة جديدة لهلك نصفُ العالم. إن تسبب بعضُ الناس في حرب عالمية.. إن استمروا في التشدُّق بالتحديات.. إن تصرفوا تصرفات “دون كيشوتية” -اعذروني-.. إن تكلموا بمثل: “ليسَ لِأَحَدٍ أن ينصحَنا!”، “لو هاجمونا لَوَجَدُوا منا أكثر!”.. إن تصرّفوا من دون علم بحدود قوتهم وقدرتهم فلا شكّ أن العاقبة ستكون وخيمة..
إن “الاتحاديين”؛ الحزبَ الحاكمَ في العهدِ الأخيرِ للدولة العثمانية، فعلوا نفسَ الشيء، فدمَّروا دولةً كانت عنصرَ التوازنِ في العالم، وكانت تحكم جغرافية عظيمةً تتضمَّنُ مائتين وخمسين مليون نسمة، وكانت دُولُ هذه المنطقة حتى جنوب السودان تنظر إلى عينها وإشاراتها. لكن لما شنّ الاتحاديون الحرب على روسيا بعقلية طفولية انهارت تلك الدولة العظيمة عنصر التوازن، انهارت تلك الدولة في أيدي بضعة مراهقين أغرارٍ عاجزين عن إدارة الدولة، أسَرَتْهم أهواءُهم وآراءُهم الشخصيّة. لذلك فإن تسبُّب المبتدئين الأغرارِ في وقتنا الحاضر لحدوث حرب جديدة أمرٌ محتملٌ في كلِّ حين. ومعنى هذا دمارُ نصف العالم وهلاكه.
الدبلوماسيةَ.. الدبلوماسيةَ.. الدبلوماسيةَ…
يقول برتراند راسل: حدثَ كذا في الحرب العالمية الأولى، وفي الثانية حدثَ كذا.. وإن اندلعت الثالثة فيكونُ مآلُ المقتول إلى القبر، ومآل القاتل إلى غرفة الإنعاش. من المؤكّد رأى هذه الفقرة من قرأ الكتاب. اعذروني. نسألك اللهم عنايتك، اللهم مُنَّ علينا بالمحاكمة العقلية.
أما الصراعات والانتهاكات والتسلطات والتعديات التي نشهدها فيما بيننا (في تركيا)، فندعو الله أن يهبَ لمن يقفون وراءها بصيرةً، وأن يدفع ظُلمَهم وطغيانهم. ذلك أن عاقبةَ الظلمِ هزيمةٌ وخسارةٌ لهم ولغيرهم. إن تسبّب هذا الظلم في تصدعات وتشققات في الأرض، فحدث زلزالٌ، لماتَ مع الظالمين كثيرٌ من الأبرياء أيضاً. دائمًا أخافُ ذلك خوفًا شديدًا؛ لأن منطقة “مرمرة” تقع على فوالقَ قابلةٍ لإحداث زلازل كلَّ حين. إن هذه الفوالق قد لا تنكسر بالقنابل الذرية، إلا أنها تنكسر بقنابل الظلم، وتظهر مصائب أكبر مما ظهر في زلزال “صقاريا” السابق. من نال شيئًا من متاع الدنيا عن طريق الظلم فعاقبتهُ وخيمةٌ. إن الله لا يغفر الظلم. “فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”.
https://youtu.be/K5U-uNzjjwI