د. محمد جكيب
الحب” و”الكراهية” قيمتان تكتسيان أهمية كبيرة، عندما يتم تناولهما في ظل بعض المعطيات الموضوعية والتاريخية، التي تفرض إثارة القضية ووضعها على طاولة النقاش من زوايا مختلفة تتصل بكيان الإنسان فكرياً وثقافياً واجتماعياً. فبحث القيمتين له ما يبرره، بالنظر إلى الوضع العام الذي تعيشه الإنسانية في خضم الزخم المهول من الأحداث وتتابعها بسرعة فائقة، وكأن موازين الزمن ومقاييسه قد اختلت، حتى إن أحداً لم يعد بمقدوره البقاء بعيداً عن دائرة التأثر بذلك.
لقد وُجد “الحب” و”الكراهية” باعتبار بعدهما الأخلاقي، منذ أن وجد الإنسان، لأن حاجة الإنسان إلى “الحب” حاجة ملحة، ولا نقول إن حاجة الإنسان إلى “الكراهية” حاجة ملحة كذلك، ولكن الأشياء تدرَك بالنقيض. فقيمة الحياة لا تدرك على حقيقتها إلا من خلال حقيقة الموت، وأهمية الليل -مثلا- لا تستوعب إلا من خلال حيوية النهار، وارتفاع آمال إدراك الجنة لابد له من وقوع معاني الخوف من النار في القلب.
الحب والكراهية
إن حاجة الإنسان السوي إلى “الحب” كحاجته إلى الطعام. فالإنسان يحب الكثير من الأفعال والتصرفات، ويحب إتيانها لحاجته إليها في المقام الأول، فهو يحب العيش في جماعة بشرية، ويكره الوحدة والانعزال. وعيشه في جماعة وتفاعله معها التفاعل الإيجابي يفرض قدراً من “الحب”، أي يفرض تقديم “الحب” كما يفرض تلقيه. وهذا الإحساس في حد ذاته هو الذي قد يدفع إلى تولد “الكراهية” بمختلف أصنافها، فالإنسان مضطر إلى كراهية أمور كثيرة، مخافة تصدع كيانه وفقدان ما يحصل عليه من حب، ومخافة اختلال توازنه.
لقد رسخ في الذهن أن “الحب” موضوع عاطفي مجاله الأدب والفن وكذلك الدين وخاصة التصوف. وقد لا يخطر على البال أن يكون موضوع “الحب” قيمة من القيم الحضارية، المؤسسة لخطاب ذي خصوصية.
كثيراً ما يربط “الحب” بحاجة الحفاظ على النوع وغريزة البقاء، ويربط من هذه الزاوية بالجنس كما يربط بغريزة الطعام، فكلاهما ضرورة لا يُتخلى عنها، وهو رأي الفلسفة الطبيعية. واهتمام الثقافات والحضارات بالقيمتين متفاوت، بل إن للّحظة التاريخية تأثيرها الخاص في القيمتين. فقد نلمس أن نظرة الناس للقيمة أعمق في مرحلة تاريخية ما، مقارنة بلحظة أخرى سابقة، لأن الوقائع التاريخية تؤثر في طبيعة التوظيف بالنظر -مثلا- إلى ما تتداوله المحافل الاجتماعية والثقافية والفكرية، من قيم فاضلة تسترشد بالحب ومعانيه في إرساء منظومتها المدنية والحضارية، أو من قيم غير فاضلة تلغي الحب وقيمه في منظومة مختلفة لا همّ لها سوى تحقيق مصلحة ضيقة تعتبر الإنسان مجرد وسيلة وليس هدفاً.
هناك حاجة مادية أو معنوية منتظَرة من “الحب”، أي إن “الحب” يكتسب صفة المعنوية أو المادية انطلاقاً من حالة الذات، وانطلاقا من الأهداف والمرامي المقصودة، دون إغفال الطرف الثاني المراد بالفعل، وهنا يتدخل عنصر القصد والإرادة في الفعل. فقد يستهدف “الحب” غاية ما؛ مادية أو آنية، فيصير فعلاً إرادياً متحكماً فيه وفي مراميه وفي مسلكه.
الحب مسلك ذوقي للارتقاء
لكن “الحب” في بعده المعنوي السامي يهدف تحقيق لذة معنوية غير مرتبطة بزمن، ولذلك قالوا إن “الحب” الحقيقي هو “الحب” المتصل بالزهد في تحقيق المصلحة والمنفعة الشخصية. وللمتصوفة بمختلف مشاربهم نظرات إلى “الحب” بهذا المعنى، أي بمعنى الزهد في كل الماديات من أجل تحقيق الالتحام بالمحبوب؛ لأن الإنسان إذا زهد في الماديات وزهد في الدنيا، وتعلق قلبه بحال روحانية تشاهد قدرة الخالق المطلقة في كل ذرة في هذا الكون، وفي كل حركة من حركاته غير المتناهية.. حقق بذلك الحبَّ الخالص لله وفي الله، فتتحول كل الأفعال والسكنات والتصرفات -بفعل ذلك- إلى مسلك ذوقي للسمو والارتقاء، والنتيجة المباشرة هي الفاعلية الكبرى للإنسان في الواقع.
وكلما توسع هذا الإحساس وتمكن من القلب والكيان كلما انعكس ذلك كله بالإيجاب على المجتمع كله. فلنتصور أن مجتمعات يسودها الحب بالمعنى المشار إليه وفي كافة المجالات؛ الاجتماعية والثقافية والفكرية، فهل ستجد الأزماتُ طريقاً إليها.
اتخذ مفهوم “الحب” في الفكر العربي القديم عدة أبعاد تعكس مدى اهتمام الثقافة السائدة والوعي الجماعي به، كما تعكس طبيعة الذوق الجماعي العام، وهو ما قد يعد نوعا من الترف الفكري البعيد عن انشغال الناس وتفكيرهم. لكن مجتمعاً تسود فيه معاني “الحب” يمكن اعتباره مجتمعاً متسامحاً، مبشراً بقيم فاضلة ترفع قيمة الإنسان في كل مكان، وهي قيم سادت المجتمع بتأثير عوامل كثيرة أهمها الدين وتطور الحياة المدنية.
بأجنحة الحب تُخترق أجواء النفس
لقد توسع متصوفة الإسلام وبعض مفكريه في إبراز قيمة الحب بنبرة مفعمة بالصدق والإخلاص والتطلع إلى الطمأنينة القلبية، وجعلوا ذلك مسلكاً إلى الارتقاء في مسالك العبودية لله تبارك وتعالى؛ على أن أغلبهم لم يفصح صراحة بأن من شأن تمكّنِ هذه المحبة من القلوب والأرواح والنفوس، بناء أجيال من فرسان النهار ورهبان الليل، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم. فحبهم لله ولرسوله كان حباً صادقاً، وهم وإن كانوا استمدوا ذلك من نور مشكاة النبوة بحكم مصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن همَمهم العالية وإيمانهم العميق بالرحمة المهداة إلى الإنسانية، وإيمانهم بأن الله قد أسبغ عليهم نعمة عظيمة، قد فرض عليهم واجب نقلِ وتبليغ هذه النعمة العظيمة إلى الناس كافة. ومن هنا فإن النتيجة المنطقية لهذا الشعور السامي، هو محبة الآخر محبة خالصة لله ترجوا تخليصه من الهلاك المحتوم فلولا كراهية العودة إلى الكفر وكراهية أن يتجبر الشيطان لَمَا انبرى مجتمع الصحابة والمؤمنين ينشرون الإسلام ومحبة الله ورسوله. وما أجمل تعبير الأستاذ فتح الله كولن في وصفه للمحبة حين قال: “فالمحب الذي اخترق أجواء نفسه بأجنحة المحبة، ووصل إلى ربه في بُعد العشق والشوق لدى أدائه لحقوق سلطان قلبه ومسؤولياته نحوه، بأعضائه الظاهرة ومشاعره الباطنة، فإن قلبه منشغل به دون انقطاع وهويته محترقة بسبحات وجه الحق وفي حيرة وإعجاب، وعلى شفتيه كأس العشق.. وعندما تنفرج أمامه أستار الغيب الواحد تلو الآخر ينتشي بمطالعة المعاني المترشحة من وراء هذه الأستار، وهو في ذوق المشاهدة التي لا تطال.
فإذا ما سار سار بأمر الحق سبحانه، وإذا ما وقف وقف بأمره. وإذا تكلم تكلم بنفحات منه، وإذا ما سكت سكت لأجله، فهو أحيانا في أفق بالله، وأحيانا في أفق من الله، وأحيانا في أفق مع الله”…
الحب مشترك إنساني
وأما الثقافة الغربية فاهتمامها واسع بقضية الحب والكراهية. والمتأمل في هذا الاهتمام سيلاحظ أن المعجم يكثر من ذكر دلالات توظيف قيمتي الحب والكراهية. فـ “الحب” في المعجم عدة أصناف: فهو أولا إحساس ولبوس أشكاله متعددة؛ منها حب الله أو الحب الإلهي وحب الإنسانية، و”الحب” العائلي الأسري، وحب شخص لآخر حب رغبة، أو حباً مادياً أو فيزيائياً. وبتأمل هذه الحقول نلاحظ نوعاً من التقاطع بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، وهو راجع إلى المشترك الإنساني، الذي تلتقي عنده كل الثقافات، الشيء الذي ينفي حقيقة فكرة “صراع الحضارات” ويؤكد في الوقت نفسه حوارها، بل تتجاوز ذلك إلى تكاملها. فالأمر يتعلق في العمق بمفهوم عميق للحضارة في إطار إيجابي.
لكن عند التنعم في دلالة “كراهية” في الثقافة الغربية سيوجد أنها تدل على إحساس عنيف يدفع إلى الرغبة في إحداث الأذى بآخر مع التلذذ بذلك وبالذي يقع به. ومعنى ذلك أن هذه القيمة مرتبطة إما بحالة نفسية تعوض نقصاً وتغيب الإرادة، وإما برغبة إرادية في تحقيق لذة، أي إن المصاب بداء “الكراهية” يتلذذ بكراهية الآخرين، أو بتحقيق لذة أخرى منقولة إلى مجال آخر لا تتحقق فيه الرغبات إلا بـ”الكراهية”.
التأثير التاريخي في المعجم
وإذا سلمنا بأن الألفاظ كائن حي يتأثر بالتاريخ، فإن قيمة “الكراهية” هي الأخرى قد تفاعلت والتاريخ الغربي، الذي عرف الكثير من الأحداث التاريخية التي أكسبت القيمة دلالتها الحالية، فهي تعكس طبيعة الوعي الجمعي الذي صنع تلك الأفكار وقام بصياغتها. ومن هنا فنحن أمام قيمة تعكس واقعا تاريخيا تبلور في إطار واقع مفعم بالكراهية.
وفي لسان العرب نجد “أن الله عز وجل ذكر “الكَره” في غير موضع من كتابه العزيز، واختلف القراء في فتح الكاف وضمها. وقد أجمع كثير من أهل اللغة أن “الكَره” و”الكُره” لغتان، فبأي لغة وقع فجائز إلا الفراء، فإنه زعم أن “الكُره” ما أكرهت نفسك عليه، و”الكَره” ما أكرهك غيرك عليه. وقال سبحانه وتعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾(البقرة:216)، ولم يقرأ أحد بفتح الكاف فيصير الكَره بالفتح؛ فعل المضطر، والكُره بالضم؛ فعل المختار”.
نخلص إلى لمس اختلاف جلي بين الحقلين. فما في المعجم الغربي يحيل على معاني كثيرة لا نجدها في المعجم العربي، وعلل ذلك كثيرة أهمها التأثير التاريخي في المعجم، لأن اللغة كائن حي يتأثر بالوقائع والأحداث. فالقيم والمفاهيم ليست بريئة، وهي تحمل في بطنها زخمها الفكري والحضاري والتاريخي، وعند نقلها إلى واقع فكري مختلف، تصير غريبة عن التربة التي نقلت إليها، فتحدث بلبلة فكرية وثقافية.
إن الحديث عن “الحب” و”الكراهية” باعتبارهما قيمتين، حديث عن العلاقات التي ينشئها الإنسان جماعات وأفرادا فيما بينهم، على الرغم من أن هناك من يعتبر “الكراهية” عاملا من عوامل الحضور، وبأن “الحب” لا يمكنه التغلب على “الكراهية” التي تتغذى في العمق على تبدد قيمة “الحب” مستحضرين ما يذهب إليه بعض علماء النفس من أن في كل فرد مصدرا دائماً للتدمير، قابلاً لأن ينتج ردود أفعال كلما اختل توازن العلاقات.
الجمال الروحي يولد الحب الروحي
“الحب” ليس عاطفة مطلقة كما تصوره الأدبيات العاطفية وقصص الحب، إذ من الواجب التخلي عن العقل والإرادة في ضبط حركته. فهو يشرك كل قوى الإنسان، ولكن مع بقاء الإنسان محتفظا بحريته ومتحكما في إرادته.
و”الحب” كذلك لا يقع تحت تأثير تقلبات الشيء المحبوب، لأن مهمته تقع خارج هذه التقلبات. هناك حب تام يفترض لقاء بآخر مماثل، والمماثلة لا تعني أن تكون الصورة ذهنية أو مثالية، ولكن تعني إنسانا لا يُشعر بعدم القبول، أي أن يكون كما هو دون تلميع أو زيادة. وهذا يحصل عند الإحساس بالجمال حقيقة، وهو الجمال الروحي الذي يلغي المظاهر ويلمح العمق، من هنا يتولد “الحب” الروحي.
إن “الحب” حقيقة ينظر إلى القيم الكلية وليس إلى الجزئي والعابر. فالإنسانية إذا ما نظرت بهذا المنظار، أمكنها تجاوز الكثير من الاختلاف والصراع والخوف و”الكراهية”، ولكن السؤال هو: كيف يمكن الوصول إلى ذلك؟ قد يقول القائل إن هذا بعيد عن أن يتحقق، لكنه حلم صغير والأشياء الكبرى تبدأ صغيرة. وأظن بأن مجال النقاش والحوار والبحث في الموضوع يلزم أن يبدأ الآن وأن يتجه عمل المهتمين إلى وضع المناهج الكفيلة بصناعة “الحب” بدل صناعة “الكراهية”. لا قيمة للحب إذا لم يكن متبادلا، وتبادله لا يعني التساوي؛ إنه تبادل في إطار الاختلاف مثل اختلاف الرجل عن المرأة، والشيخ عن الشاب، والمعلم عن المتعلم.. فكل طرف يحب باعتبار ذاته في إطار رابطة، وكل طرف يعطي ويتلقى، وما يعطيه غير الذي يتلقاه.
إن مكمن القوة في “الحب” يوجد في الممنوح من جهة كونه لا يفقر المانح ولا ينقص خزائنه كثرة المنح، بل هو الشيء الذي يشعر بالغنى عندما يمنح.
الحب شفرة الفطرة الإنسانية
والمحصل عليه هو ما تحتاج إليه الإنسانية حقيقة وهو الحب، فـ”الحب” يشعر بوجود الآخر. يلمس ذلك في عالم صغير أو علاقة مصغرة بين زوج وزوجة، أو بين الأب وأبنائه، أو الأم وأولادها، لكن هذه الصورة تنطبق حتى على ما هو أوسع من ذلك كالمجتمع المحلي أو المجتمع الدولي.
صحيح أن علاقة المحبة التي تنشأ بين الزوج وزوجته أو الأم وأولادها، هي أقوى وأمتن من تلك التي يفترض نشوءها بين أفراد المجتمع المحلي أو أفراد المجتمع الدولي، لكن المقصود هنا هو ذلك الإطار الدلالي المحيط بقيمة “الحب”، الذي يستقبل ويوزع -في الآن نفسه- عدداً لا يحصى من المعاني التي للحب فيها دور أساسي كالرحمة والعطف والود والانسجام والتآلف والتفاهم، والتفهم والاحترام والتقدير، والإعجاب والعفو والعدل، والتسامح واللين والرأفة والإيثار إلى ما لا نهاية من المعاني النبيلة والقيم الأخلاقية السامية، يحفل بها المستعمل اللغوي في أغلب الثقافات، وفي أغلب اللغات، حتى لا نقول كل اللغات، والسر في ذلك هو أن “الحب” وسيط تواصلي، يتوفر على شفرة دقيقة جدا ينبغي البحث عنها في أصل الفطرة الإنسانية.
الشاهد هو أن “الحب” ليس مجرد شعور، بل شفرة تواصلية، انطلاقا من القواعد التي نود التعبير عنها وإبلاغها أو بسطها للآخر. فهو نموذج سلوكي موجود بالقوة باعتباره سلوكا وباعتباره معرفة.
والمنهج القرآني، ومن خلاله السيرة النبوية التي هي القرآن المطبق، درجا على التعامل مع الإنسان، برغبة حقيقية في تخليصه من أدران الالتصاق بالأرض والانكباب على الوجه والتيه دون هدف محدد ولا غاية.
وخلاصة الكلام، إن الإنسانية مطالبة بالبحث عن عناصر هذا المشترك الإنساني في قضية الحب، وإن كنت أعتقد أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد جمعا تلك العناصر كلها وهي تنتظر من يلتقطها.
ـــــــ
المصادر
(1) التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(2) لسان العرب المحيط، لابن منظور، إعداد وتصنيف: يوسف خياط، دار لسان العرب، مادة: “كره”. وانظر ترتيب القاموس المحيط، على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، تصنيف: الطاهر أحمد الزاوي، دار الفكر ط:3.