بقلم: ممتاز آر توركونه
شهد القصر العدلي” تشاغلايان” بإسطنبول الجمعة الماضي الجلسة الثانية من القضية المعروفة باسم “قضية تحشية” أو بالأحرى القضية التي تم اختلاقها من سيناريو أحد المسلسلات المعروضة على قناة “سامان يولو” قبل سنوات.
وكان ظهر أن جهاز المخابرات التركية يقوم منذ عام 2004 بمتابعة مجموعة تحشية المرتبطة بتنظيم القاعدة والت يتم الاستناد إليها كمبرر رئيسي في تحقيقات عمليات اعتقال الصحفيين والكتّاب ، وعلى رأسهم رئيس مجموعة سامان يولو الإعلامية هدايت كاراجا المعتقل منذ أكثر من عام، بتهمة السعي للسيطرة على الحكم في البلاد استنادًا إلى اتهامات لا أساس لها.
وتزعم النيابة العامة أن جماعة” التحشية” شرعت في تكفير الجماعات والطرق الدينية بعدما حذر العلامة فتح الله كولن من فكرهم وآرائهم في أحد دروسه في 2009. إلا أن المعلومات والوثائق التي ظهرت مؤخراً كشف عن أن جهاز المخابرات التركية كان يتابع هذه الجماعة ويراقبها منذ عام 2004.
وكانت -المخابرات- هي من أطلق على الجماعة اسم”التحشية”. وبعدها قدّمت معلومات للهيئات الأمنية في عام 2008 عن العملية. فقد أكد وزير الداخلية الأسبق إدريس نعيم شاهين أن ادعاءحكومة العدالة والتنمية بعدم وجود تنظيم كهذا في الواقع، وكذلك تعرض المعتقلين من أعضاء التظيم للظلم ادعاء كاذب خال من الصحة.
وأوضح شاهين أن القنابل التي تم العثور عليها ضمن الحملة التي شنتها السلطات التركية على تنظيم تحشية قبل سنوات هي من سلسلة القنابل التي عثر عليها مع تنظيم أرجينيكون. وأكد أن هذا يشير إلى دوره إلى وجود علاقة وارتباط بين تنظيم تحشية وتنظيم أرجينيكون من جهة أخرى.
وقد بدأ النظر في هذه القضية المتهم فيها 33 شخصًا، وعلى رأسهم رئيس مجموعة “سامان يولو” الإعلامية هدايت كاراجا، وقيادات أمنية مثل علي فؤاد يلماز آر، يوم الثلاثاء الماضي، وأُغلقت الجلسة الأولى منها بطلب المحامين رد القاضي. لكن يمكن القول بأن درجة جديّة هذه القضية ارتفعت قليلاً بعد جلسة الجمعة وقد تنعكس إيجابياً على سير المحاكمة بشكل سليم.
ينبغي أن يكون القانون نظيفًا مثل الهواء الذي نستنشقه والماء الذي نروي به ظمأنا، وإلا التصقت القاذورات بأنفكم وفمكم. لأنه إذا غابت العدالة استحالت قاعة المحكمة إلى مسرح تشاهدون على خشبته العدالة وقد ضُرب بها عرض الحائط، إذ نرى أن المحكمة تحاول قصّ بدلة قصيرة وضيقة من ذارعيها وساقيها خيط أجل رجل ذي هيبة بحيث لا يأتي على قدّه أبداً. وهذا المشهد ليس مقتصراً على الدائرة الثالثة عشر لمحكمة الصلح والجزاء التي يُحاكم فيها هدايت كاراجا فقط، وإنما ينطبق هذا على جميع عمليات الانتقام التي ألقت بثقلها على العامين الماضيين في تركيا. إذ القضاء لم يفقد استقلاليته وحياديته فحسب، بل الأنكى أنه تحوّل إلى سلطة في قبضة الحزب الحاكم تنزل كالمطرقة على كل رأسِ مَنْ لا ينحني للحكومة ويقدم لها الولاء والطاعة.
مع ذلك فإن الأطراف المنحنية والملتوية لناقة وضعت في جوال بصعوبة تظهروضوح الشمس في رابعة النهار مهما حاولوا إخفاءها. دعوني أجسد ما أقوله بمثال واحد فقط. تأسَّست محاكم الصلح والجزاء بهدف إغلاق تحقيقات الفساد والرشوة الكبرى التي تكشفت وقائعها في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2013 وحبس هدايت كاراجا في السجن. وتحققت هذه الأهداف عن طريق إقصاء محاكم العقوبات المشددة باعتبارها سلطة الطعن على قرار عدم الملاحقة القضائية الذي أصدرته النيابة العامة بخصوص ملفات الفساد، وحبس كاراجا في السجن لمدة تجاوزت العام دون تقديم أدلة ومبررات معقولة.ومن ثم أصبحت مهمة محاكم الصلح والجزاء أن تكون درعًا واقيًّا لحماية الحزب الحاكم وتحويل الاعتقال – مع أنه تدبير وقائي – إلى أداة للتعذيب وتوقيع العقوبات.
ومن أجل إعمال هذا النظام وتشغيله؛ حوّل مجلس القضاة والمدعين العامين الأعلى إلى جهاز من أحد أجهزة وزارة العدل، على النقيض من مهمته الأصلية التي تتمثل في حماية رجال القضاء تجاه الحكومة. وتبع ذلك إقالة مدعي العموم والقضاة الذين كانوا يحققون في قضايا الفساد بيد هذا الجهاز بفضل القرارات التي أصدرها رغم أحكام الدستور الواضحة، ثم رفعت ضدهم دعاوى واعتقلوا وأودعوا السجن. ومع استحداث دوائر الصلح والجزاء قضي على مبدأ “القاضي الطبيعي” وضمان استقلال السلطة القضائية، ولم يبق لا استقلالية ولا حياد في جهاز القضاء. وكيف تنتظرون العدالة من نظام قضائي يسمح للحزب الحاكم بالتدخل في شؤونه إلى هذه الدرجة؟ ألم يخلِ القاضي قبل عدة أيام سبيل رجال الأمن لـ”عدم وجود أدلة دامغة لإدانتهم بتهمة تنظيم إرهابي مسلح”،ومن ثم اعتقلهم مجدداً بعد ستة أيام؟ ما هو الدليل الجديد الذي عثر عليه القاضي حتى يأمر باعتقالهم مرة أخرى يا تُرى؟
وفي الوقت الذي كان يتم فيه النظر في “قضية سيناريو مسلسل”التي يحاكم في إطارها هدايت كاراجا في محكمة تشاغلايان الثلاثاء الماضي، كان الرئيس رجب طيب أردوغان يعلن في نفس التوقيت عن قرار هذه القضية وهو واثق من نفسه، بالرغم من أن مذكرة الاتهام لم تكن قد قُرئت بعدُ في المحكمة. كان يقول في تصريحاته “داهمنا أوكارهم” ويضيف “اليوم يحاسبون”. لكن أريد أن أسأل: ألم ينص الدستور على أن أحدًا لا يمكنه أن يصدر تعليمات وأوامر للمحاكم؟!
مع ذلك فثمة مشكلتان أساسيتان. أولهما متعلقة بهدايت كاراجا وزملائه. فمهمة محكمة الصلح والجزاء انتهت بعد أن قضت بالاعتقال لمدة تجاوزت العام. واليوم يجب وضع أدلة الإدانة التي لم تتضمّنها مذكرة الاتهام أمام قضاة محاكم العقوبات المشددة. لا بد أن يكون في المذكرة مبررات قرار المدعي العام. أي يجب أن تزول التكهنات والافتراضات والمحاكمات المجردة وتحلّ محلها الأدلة الدامغة التي يتطلبها القانون. باختصار ينبغي أن تكون هناك عدة أشياء أخرى لتبرير القرار. لكن كيف سيتم العثور على كل هذه الأشياء؟ فماذا عسى أن تفعل المحكمة إذا أرسلت رئاسة الأركان العامة إليها “التقرير الخاص بمجموعة تحشية” الذي أعدّه جهاز المخابرات الوطني وحاول إخفاءه عن الجميع؟ لكن هل يمكن أن يخفي جهاز القضاء تقريراً بهذا الحجم والأهمية بعد أن تسلّمه من رئاسة الأركان العامة؟
والمشكلة الثانية هي أكبر من ذلك بكثير ودائمة. أذهبُ منذ سنوات طويلة إلى المحاكم. وأرى أن المجلس الأعلى للقضاة ومدعي العموم قد شلَّ المحاكم وبات القضاة في مأزق كبير. في رأيكم كم قاضياً يمحص اليوم ويطالع الملفات الموجودة أمامه في ظلّ الخوف من التشريد أو النفي أو الحبس، ويستيقظ ليلاً في سريره على كوابيس مخيفة بعيداً عن وسادة الضمير المريحة؟ حقاً كم عدد أمثال هؤلاء القضاة؟
إن افتقاد القضاء لاستقلاليته وحياديته يعني غياب العدالة واندثارها. أما غياب العدالة فيعني زوال الثقة في جميع أركان المجتمع والدولة. وإذا غابت الثقة فلن تبقى أي قيم إنسانية ووجدانية. إذا انعدمت الثقة فلن توجد حقيقة يمكنكم الاستناد إليها. لماذا لا نأخذ بعين الاعتبار أن العنف المتزايد في مدن جنوب شرق البلاد سببه فقدان الثقة هذه؟ إن لم يكن هناك قضاء عادل فمن سيثق بالدولة إذن؟
هل يمكنكم أن تحافظوا على وحدة شخصين– دع عنك وحدة البلد – في دولة يسود فيها نظام قضائي يختلق من سيناريو أحد المسلسلات التلفزيونية “منظمة إرهابية” ويسلب حرية الناس دون تقديم أية أدلة دامغة؟