مصطفى أونال
كانت السياسة الخارجية أكثر مجال تتباهى به حكومة العدالة والتنمية. فقد كسرت القيود التقليدية للسياسة الخارجية. وعالجت المواضيع المعقدة. وقادت حملات أدهشت الجميع. كما في مشكلة قبرص. حيث انتهجت سياسة سلمية.
كما أنها سلكت الطريق الصحيح فيما يخص الانضمام للاتحاد الأوروبي. وبدأت بالمفاوضات من أجل عضوية الاتحاد. ونجحت في تقريب أنقرة من بروكسل. وانفتحت أبواب واشنطن على مصراعيها أما حكومة العدالة والتنمية بسبب هويتها الإصلاحية.
ووسّعت علاقاتها بدول الجوار. وتبنت سياسة نبذ جميع المشاكل. وعملت على إزالة العقبات مع سوريا، بل حتى مع أرمينيا. حيث تحقق المستحيل حين التقى زعيما البلدين.
وألغت تأشيرات الدخول مع سوريا، وكأنه لم يعد هناك حدود بين البلدين. كما أخذ الرئيس رجب طيب أردوغان يفكر جديا بالانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون.
ولكن انقلبت الأمور رأسا على عقب في المرحلة الأخيرة. وبدأت الرياح تهب في الاتجاه المعاكس. وتحول النجاح إلى فشل. وبدأت حكومة العدالة والتنمية تهوي متدحرجةً بسرعة من الدرجات التي صعدتها خطوة خطوة من الأعلى.
وتحولت سياسة “إنهاء المشاكل مع دول الجوار” إلى سياسة مفعمة بالمشاكل. وهذا ليس مع دول الجوار فحسب بل تكاد لا توجد دولة ليست لها مشاكل مع تركيا. فالسياسة الخارجية لا يمكن أن تقاد بالعواطف والشعارات. فهي تتطلب العقل الاستراتيجي، والسياسة الدقيقة. فالقاعدة فيها هي أن المصالح تحدد العلاقات. لذا فمن الطبيعي أن تشهد العلاقات بين الدول تحسنا وتراجعا وصعودا وهبوطا. وليس هذا ما نعترض عليه.
فما تعيشه تركيا الآن من الهبوط والصعود بشكل مفاجئ وسريع ليس طبيعيا. فهي كمن تسيِّره العواصف أو تتقاذفه الأمواج. والوجهة غير معلومة. أنا لا أعترض على تحسين العلاقات مع إسرائيل. فلم أكتب هذا المقال من أجل ذلك. ولكن ليس من السهل تغيير المسار إلى منعطف شديد كهذا. فكيف يمكن للمواطن العادي أن يستوعب الانتقال من موقف “دقيقة من فضلكم” “one minute” (هي العبارة التي قالها أردوغان للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، وأصبح موالوه يتغنون بها) إلى صداقة إسرائيل. فلو استغرق هذا التحول مدة معينة لكان معقولا بعض الشيء.
وقد صرح مسؤول السياسة الخارجية في حكومة العدالة والتنمية، نائب رئيس حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك قائلا: “لا شك في أن دولة إسرائيل والشعب الإسرائيلي صديقان لنا”. وهذا التصريح دخل السجلات. فإن أغلقتَ بابا بشدةٍ وأنت مضطر لفتحه يوما ما، فمن الطبيعي أن يُذكِّرَك أحد بذلك. علما بأن الصورة المعروضة في الداخل كانت مخالفةً للحقائق الواقعية. فالتناقض بين الصوت والصورة هو ما يسود السياسة الخارجية للعدالة والتنمية.
في حين أن موضوعنا ليس العدالة والتنمية، بل سمعة ومكانة تركيا. فقد باتت الرياح تهب في موقع ضريح سليمان شاه الذي يعد أرضا تركية داخل سوريا، إذ لم تعد هناك أرض ولا ضريح. وهل ثمة مواطن تركي لا ينزعج مما حدث خلال الأيام العشرة الماضية بسبب المشكلة العسكرية في الموصل؟ ولا يمكن التستر على الحقائق من خلال اللعب بالكلمات مثل “تعديلات” و”تغيير الموقع”. فالعاقبة وخيمة، حيث اضطرت القوات العسكرية التركية للانسحاب من مشارف الموصل.
ولا داعي للتذكير بالأزمة الروسية. إذ إن المشكلة ليست مع موسكو فقط، بل مع كل المناطق الخاضعة للنفوذ الروسي. وطبعا مع سوريا بالدرجة الأولى. فسياسة العدالة والتنمية إزاء سوريا كافية ووافية لإثبات أخطائه. فنتائجها معروفة، ولا داعي حتى للمناقشة حولها. ولو أن مشكلةً واحدة فقط من مشاكل السياسة الخارجية حدثت في دولة أخرى لقامت الدنيا ولم تقعد. ولكن العدالة والتنمية ماهر في الالتفاف على الأمور في كل الأحوال.
واليوم ليس هناك أحد يتبنى السياسة الخارجية التي كانت متاعا مرغوبا لدى المسؤولين الكبار في حزب العدالة والتنمية في السابق. ولا أحد يرغب في الحديث عن المواضيع المتعلقة بإسرائيل والموصل وروسيا. فعدد الذين يتبنّون الانتصارات يكون كثيرا، لكن الهزائم تبقى يتيمة.