د. السيد ولد أباه
في مقال هام منشور في صحيفة «لوموند» الفرنسية، ذهب المفكر والداعية الإسلامي التركي «فتح الله غولن» إلى مطالبة المسلمين بشن حرب حقيقية على التطرف والإرهاب من خلال إستراتيجية محكمة متعددة الجوانب، تتمحور حول ثلاثة مطالب رئيسية هي:
-بناء تحالف دولي من الدول المسلمة للقضاء على التنظيمات المتطرفة، وفي مقدمتها تنظيم «داعش» الذي غدا خطراً حقيقياً على المجتمعات والدول الإسلامية وعلى استقرار العالم وأمنه.
– تنقية الخطاب الدعوي والفقهي من كل رواسب النظرة العدائية الإقصائية للآخر التي تبلورت في سياقات تاريخية مغايرة لوضع البشرية الراهن، انطلاقاً من أن أصل علاقة المسلم بغيره هو التسامح والتعاون والسلم، وكل ما يتعارض مع هذه الرؤية الثابتة يجب القطيعة معه.
– الانخراط الواعي والشجاع في منظومة القيم الكونية وعدم الاحتماء بحقوق الخصوصية الثقافية في رفض معايير الثقافة الإنسانية المعاصرة التي هي حصيلة المكاسب الحضارية المتنوعة لكل شعوب وثقافات العالم.
المقال المذكور تزامن مع إعلان قيام التحالف العسكري الإسلامي من الرياض، والذي يضم ما يزيد على ثلاثين دولة من بينها جل الدول العربية وعدد من البلدان الآسيوية والإفريقية، في خطوة نوعية نحو مواجهة الإرهاب والتطرف العنيف.
ومن الجلي أن في مقدمة أجندة التحالف الإسلامي القضاء على تنظيم «داعش» وإخراجه من العراق وسوريا ووقف تمدده في ليبيا وبلدان الساحل الإفريقي، لكن المطلوب هو أن يتحول التحالف إلى نواة لمنظومة إستراتيجية كاملة لا تكتفي بإطفاء حرائق الفتن والحروب التي تعصف بعدد متزايد من البلدان الإسلامية، بل تزيد على هذا الهدف العاجل بمهمتين أساسيتين هما:
أولاً: رعاية المصالحات الوطنية في البلدان التي تعيش محنة الحروب الأهلية كما هو شأن عدد من الدول العربية والإفريقية المسلمة، من خلال مقاربات وآليات جديدة تجمع بين الدبلوماسية التقليدية وتوظيف المجتمع المدني والزعامات الدينية والأهلية في التسوية المطلوبة، بالاستفادة من أخطاء التجارب التفاوضية الفاشلة (كما هو حال تجربة المصالحة في الصومال، والتي لا تزال متعثرة بعد ما يزيد على عشرين سنة من المحاولات المتكررة). ومن أهم بنود هذه المهمة احتواء الصراع الطائفي السني الشيعي الذي تستغله بعض القوى الإقليمية في نزوعها للتدخل والتوسع.
ثانياً: المساعدة في إعادة بناء الكيانات السياسية المتهدمة من خلال إجراءات تدعيم النسيج المجتمعي وترميم البنيات المركزية للدولة ووضع القواعد الرصينة للبناء السياسي المنظم القادر على تجسيد الرابطة الوطنية المشتركة، بما يقتضيه هذا الهدف من حوافز تنموية ضرورية، الأمر هنا يتعلق بنمط من الهندسة السياسية الجديدة يحتاج إلى جهد واسع في التصور والتنفيذ بدل التمسك بنموذج الدولة السيادية المركزية التقليدية الذي قد لا يتناسب مع بعض الساحات التي انهارت فيها مرتكزات التعايش الجماعي المنظم.
تلك من مهام التحالف الإسلامي العسكري الذي تتولى السعودية قيادته، في حين أن مهمة الإصلاح الديني والفكري تتجاوز إطار الحكومات والدول وتعني أساساً الوجوه الفكرية والدينية المتنورة التي لا يزال صوتها خافتاً في مواجهة أصوات التطرف والغلو والتعصب المرتفعة حالياً.
ولا شك أن المأزق الذي تواجهه راهناً النخب الفكرية الإسلامية يتلخص في ما عبّر عنه العالم القانوني التونسي «عياض بن عاشور» بانفجار «الأرثودكسية السنية»، أي انهيار التقليد السني الذي هو محور التدين الإسلامي عقيدة وفقهاً وثقافة. ومع أن عبارة «أرثودكسية» قد لا تكون دقيقة لخلو الإسلام السني من مؤسسة ضابطة للاعتقاد والتشريع، فإنها تعبر عن الأزمة العميقة التي تعرفها حالياً المنظومة السنية التي انفجرت فعلا من الداخل نتيجة لسببين رئيسين: تباطؤ حركيّتها التجديدية الإصلاحية، وتنامي النزعات الأيديولوجية والتنظيمات العنيفة المتطرفة التي أصبحت المنتج الرئيسي للثقافة الدينية المشتركة.
في باريس حيث كنت هذا الأسبوع قال لي أحد الباحثين الفرنسيين من المختصين بالشأن العربي: إن الوهم السائد في الغرب حالياً هو مطالبة المؤسسة الدينية التقليدية والحكومات الإسلامية بلجم التطرف الديني وكأنها مسؤولة عنه، في حين أن ما نشهده هو الخروج على المرجعية الإسلامية التقليدية في مجملها، ما يقلص القدرة الفعلية للحكومات الإسلامية على ضبط الحقل الديني.
من موقع صحيفة الاتحاد