مصطفى أونال
ليس المهم فقط ما يعنيه هذا التاريخ (17 ديسمبر/ كانون الأول) بل مهم كذلك ما لا يعنيه. فالواقع جليٌّ والحقيقة عارية. كما أن ذلك اليوم من التاريخ لم يكن يوما عاديا، فقد مرَّ عليه عامان ولايزال النقاش قائما هل ما حدث في ذلك اليوم تحقيق في أعمال الفساد والرشوة أم كانت محاولة انقلاب على الحكومة. والملف في حقيقته بسيط وليس معقدا، ولكن بسبب صبغته السياسية يستحيل الاتفاق على تسمية ما حدث في ذلك اليوم المشهود.
ولا جدوى من تكرار الادعاءات، ولا من التذكير بالوثائق التي تم الكشف عنها. فقد رآها وفهمها وعرفها الكثيرون. ومهما قلت لمن يأبى الإبصار والفهم، فسيكون كلامك هباء منثورا. فمن لم يتخلص من الأحكام المسبقة، لا بد أنه يقتنع بنتائج مقبولة مسبقا. فقد تكون النتيجة التي يريدها عبارة عن فرضيات مثل “قد تكون الشرطة هي التي وضعت الأموال في صناديق الأحذية لتتهم الأبرياء بالاختلاس”، أو من سناريوهات “مؤامرة سياسية معقدة لا يكاد العقل يصدقه”. أو أن هناك “عقل علوي مدبر”أو ادعاء بـ”وجود مؤامرة دولية” وغيرها من فرضيات لا حد لها.
الناس البسطاء مهيَّؤون دائما للاقتناع بنظريات الدسائس وسيناريوهات المؤامرات. فما أكثر الذين يقتنعون حتى بأسخف النظريات التي تناقض العقل والمنطق في هذه البلاد! هل تريدون مثالا على ذلك؟ لا داعي للأمثلة البعيدة عن واقعنا. إذ يكفي أن تلقوا نظرة على مقالات في بعض الصحف أوشاشات الإعلام الموالي للحكومة، حتى تقرؤوا وتشاهدوا أغرب النظريات. فحين يعجزون عن إثبات نظرياتهم، تكون حجتهم الأخيرة هي: “قد يكون ادعاء وجود خزانات الأموال وصناديق الأحذية، ادعاءً صحيحا. ولكن هل كان الوقت مناسبا لإماطة اللثام عن أعمال الفساد والرشوة المتعلقة بأعضاء الحكومة؟ أولم تكن هناك أعمال فساد أو رشوة قبل ذلك الوقت؟ ولماذا تحركت الشرطة في ذلك اليوم بالضبط؟” مع أن الاعتراف بالحقيقة أسهل من ذلك.
الحادثة بسيطة جدا. حيث ظهرت ادعاءات تفيد بأن هناك وزراء أو أبناء بعضهم تورطوا في أعمال رشوة وفساد، الأمر الذي لا يمكن التستر عليه. ومن الطبيعي أن تنجم عن ذلك ضجة صاخبة، وأن يكون له ثمن، لأنه ذو بعد سياسي. وطبعا إن تعرُّض حزب العدالة والتنمية للصدمة أمرٌ مفروغ منه، ولكن الخيار الأكثر منطقيا كان يتمثل في الإدارة الصحيحة التي تجعله يتخطى هذه الأزمة بأقل الخسائر.
وقد رأت حكومة العدالة والتنمية أنه يستحيل الدفاع عن الوزراء الأربعة الذين يدّعى تورطهم أو أبناؤهم في أعمال الفساد. فقد اعترفت ضمنيا بعمليات الفساد والرشوة. فقد أمرت الوزراء الذين وردت أسماؤهم في ذلك الملف بالاستقالة من مناصبهم. فيما أن الوزير الوحيد الذي لم يقدم استقالته عزلته الحكومة من منصبه. لكنها لم تسمح بالتحقيق القضائي في الادعاءات الواردة في عمليات الفساد والرشوة، ولا سمحت في البرلمان بمثول هؤلاء الوزراء أمام المحكمة العليا.
ولو كانت عمليات 17 ديسمبر محاولة انقلاب على الحكومة بالفعل كما ادعت الحكومة، ولا علاقة لها بالفساد لا من قريب ولا من بعيد، فهل كان هناك داعٍ لمخاوف الحكومة وقلقها، كان بإمكانها أن تسمح باستكمال التحقيقات القضائية في ملفات الفساد. ولكنها لم تفعل ذلك وفوتت بذلك فرصة تبرئة الوزراء والحزب بطرق قانونية. أما الوزراء الأربعة فلم يخسروا المقاعد الوزارية فحسب، بل انتهت حياتهم السياسية فلم يدخلوا البرلمان لا في انتخابات 7 يونيو/حزيران، ولا في انتخابات 1 نوفمبر/ تشرين الثاني.
ولو كانت تلك الادعاءات واهية لكان اثنان على الأقل من هؤلاء الوزراء قد تابعوا حياتهم السياسية تحت مظلة العدالة والتنمية. ولكان هؤلا الوزراء خير من يتحدث عن المحاولة الانقلابية في 17 ديسمبر، ليكون كلامهم عبرة للجميع، ولأقنعوا الرأي العام بشكل أسهل، ولظهرت حقيقة محاولة الانقلاب بكل وضوح. علما بأن المجتمع يرفض الانقلابات والتدخلات غير القانونية للإطاحة بالحكومات رفضا قاطعا. ولكانت النتيجة قد أسفرت عن فوز العدالة والتنمية، ولكنها لم تقم بذلك. فحزب العدالة والتنمية عطل آلية جهاز القضاء والبرلمان. وأصبح هذا الحزب الكبير شريكا في الادعاءات الواردة بحق الوزراء الأربعة.
وإن تاريخ 17 ديسمبر لا ينعكس بشكله الحقيقي على الرأي العام. فقوة الدعاية وسياسات صنع الإدراك لدى العدالة والتنمية ماهرة جدا في تصوير الأبيض على أنه أسود، وتصوير الأسود على أنه أبيض. فقد صدق جوبلز حين قال: “إن تكرار الخطأ باستمرار يجعله مقنعا”. فقد استمر تكرار الحديث بصوت عال عن نظرية محاولة الانقلاب. وقُمعت الأصوات الأخرى وتم إسكاتها. واكتظت السجون برجال الشرطة والصحفيين الذين لعبوا دورا في الكشف عن أعمال الفساد في 17 ديسمبر. نعم يمكن الحديث عن وجود محاولة للانقلاب ولكنها محاولة الحزب الحاكم على تعطيل المؤسسات الحيوية في الدولة. وأنا متأكد من أن التاريخ سيعتبر المرحلة التي تلت 17 ديسمبر مرحلة عطل لنظام الدولة.
لقد نجح العدالة والتنمية في تصوير العديد من الأخطاء على أنها صحيحة. وكان سهلا إنتاج مختلف أنواع السيناريوهات، وكتابة نظريات المؤامرة حولها. وإلا، فهل كان من الممكن وصف عمليات الكشف عن الفساد والسرقة بأنها محاولة انقلابية في ظروف عادية؟
ولكن كل هذه المحاولات لا جدوى منها، فملف 17 ديسمبر لن يطوى. ولا بد من أن القانون سيصدر حكمه عاجلا أو آجلا. ولا يمكن الفرار من حكم التاريخ ومن العدالة الإلهية إطلاقا.