يشار ياكيش
إن إسقاط تركيا للطائرة الروسية التي انتهكت المجال الجوي التركي أشبه بفتح غطاء عن علبه تحوى مفاجآت.
عندما بدأت روسيا بالبحث عن السبل التي تمكنها من استعادة أمجادها العسكرية في الشرق الأوسط، حدثت مجموعة من التطورات التي منحتها العديد من الإمكانيات لتحقيق ذلك.
وكانت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بدأت أولا بترسيخ استقرارها الداخلي. ومن ثم بسطت نفوذها على المناطق التي تحيط بها. وبعد ذلك عملت على إيجاد موطئ قدم لها في الدول التي كانت تفرض عليها وجودها العسكري السياسي خلال الحقبة السوفيتية. وقد ابتسم لها القدر مرة أخرى بعد تلك المرحلة.
وكانت الفرصة الأولى قد ظهرت في العالم الإسلامي ولاسيما في الشرق الأوسط. حيث إن فشل أمريكا في أفغانستان والعراق، ومعاملتها غير الإنسانية في سجن “أبو غريب” ببغداد؛ قد هز كيان العالم الإسلامي. وقد انتهزت روسيا الفرصة لاتخاذ مجموعة من المبادرات من أجل توسيع علاقاتها بالعالم الإسلامي ولا سيما دول الشرق الأوسط.
وحين كانت روسيا منهمكةً بتطبيق هذه الجهود بدأت ثورات الربيع العربي. فعملت روسيا على رسم التطورات التي شهدتها دول الربيع العربي، وفقا لمصالحها القومية. وقد حصلت على نتائج ملموسة في بعض الدول وخصوصا في مصر.
وكان وصول موجات الربيع العربي إلى سوريا قد أتاح لروسيا إمكانيات إضافية. لأن سوريا هي الدولة التي توجد فيها أكبر قوة عسكرية سوفيتية. كما أن تسليح الجيش السوري مرتبط إلى حد كبير بروسيا.
كذلك فإن قوى المعارضة الداخلية، والعوامل الخارجية التي عملت على إسقاط نظام بشار الأسد، جعلته أكثر حاجةً إلى روسيا، التي قدمت لسوريا الأسلحة والذخائر منذ بداية الثورة، كما دعمتها دبلوماسيا في مجلس الأمن الدولي.
ظهور تنظيم داعش الإرهابي كان في صالح روسيا أيضا. حيث إن القوى الدولية شكلت تحالفا دوليا بقيادة أمريكا لمكافحة داعش. وحين بدأ نظام الأسد يخسر الأراضي جراء نزاعه المسلح مع قوى المعارضة، طلب المساعدة من روسيا، التي وجدت في هذا الطلب نعمة كبرى بالنسبة لها. فوافقت على الفور، وأرسلت إلى سوريا عددا قليلا من الجنود، يُقدَّر عددهم بنحو ألفي جندي في بداية الأمر.
وقد تمركز هؤلاء الجنود في مطار حميميم جنوب اللاذقية. وحسَّنت المطار وفقا لاحتياجاتها، كما بدأت بشن غاراتها الجوية من هذا المطار، لاستهداف المعارضين الذين يعتبرهم النظام السوري عدوا له.
لكن روسيا في حقيقة الأمر لم تأتِ إلى سوريا من أجل مكافحة داعش، بل من أجل محاربة معارضي النظام السوري. فالنظام السوري لا يرى عدوه الأكبر في داعش، بل في الحركات السلفية الأخرى كجبهة النصرة وأحرار الشام…إلخ. وكذلك فإن مشكلة روسيا لا تتمثل في داعش بل التنظيمات التي ينخرط فيها إرهابيون من القوقاز.
وبالتالي فإن روسيا تهدف بالدرجة الأولى القضاء على هؤلاء وفق ما تقتضيه مصالحها القومية. وهكذا فإن روسيا تفضِّل القضاء على الإرهابيين الروس في دولة أخرى، بدلا عن إلحاق الضرر ببنيتها التحتية وشعبها في حال محاربتهم في أراضيها.
ولكن الفرصة الكبرى التي وجدتها روسيا لتعزيز وجودها العسكري في سوريا، تمثلت في إسقاط تركيا للطائرة الروسية. إذ إن روسيا تسعى لتصوير هذه الحادثة على أنها حجة لها لاتخاذ المزيد من تدابيرها الأمنية. ومن ناحية أخرى فإن روسيا تكون قد اتخذت إجراءات تزعج تركيا، ردا على إسقاطها الطائرة.
والآن سيتوصل التصعيد إلى أبعاد ذات نطاق أوسع من خلال تدخل الناتو فيها. وإذا ما تحول الشرق الأوسط إلى برميل ممتلئ بالبارود بسبب هذه التصعيدات، فإن الشرارة التي قد تندلع في المنطقة عن قصد أو دون قصد، ستعمِّق الأزمة أكثر فأكثر.