جوكهان باجيك
ليس من المبالغة أن ندعي بأن الأتراك، بغضّ النظر عمّن حكمهم طيلة التاريخ، توجهوا إلى الغرب عن قصد أو عن غير قصد. حتى إن تعريف الأتراك بأنهم قوم ولّوا وجوههم شطر الغرب عبر التاريخ فيه شيء من الصواب.
فمثلاً، السلطان محمد الفاتح الذي قضى على الإمبراطورية البيزنطية التي كانت آخر وجود لروما، كان يُسرُّ بأن يُلقَّب بـ”الإمبراطور الرومي”. كما أن السلطان عبد الحميد الثاني كان غربيّاً لدرجة الإعجاب برقصة الباليه والروايات الغربية. وطبعاً كان في الوقت نفسه يواصل اتخاذ قراراتٍ مناوئةً للغرب كي يحظى بدعم مسلمي الهند.
وفي مختلف العهود كان الشارع أيضاً غربيّ الهوى. كما أن أشدّ المعادِين للغرب يحاولون تعليم أبنائهم في أمريكا، وإن لم يستطيعوا ففي بريطانيا . هل سمعتم بأن أحداً ممّن ينتمون للتيارات الإسلامية، سرا أو علانية، قد أرسل أبناءه للدراسة في إيران؟! فضلاً عن أن الدراسة في بعض الدول العربية التي تزعم أنها تطبّق الشريعة تعتبر خياراً اضطرارياً سيئاً بالنسبة للنخبة الإسلامية والذين تلقوا تعليماً جيداً. فالذين لا يحظون بفرصة الدراسة في الغرب هم الذين يدرسون في هذه الدول.في حين أن أكبر فرحة لمشجعي كرة القدم تكون حينما يفوز فريقهم على فريق غربي.
توجّهت تركيا بعد الأزمة السياسية الأخيرة مع روسيا توجّهاً كلياً نحو الغرب والناتو. وحتى الآن لم تقف دولة إسلامية واحدة إلى جانب تركيا في أزمتها مع روسيا – بما في ذلك منظمة التعاون الإسلامي الذي ترأسها مواطن تركي في مرحلة سابقة (أكمل الدين إحسان أوغلو) -ولم تصرح أي من الدول الإسلامية بأنها إلى جانب تركيا في كل الأحوال بوصفها دولة إسلامية شقيقة. بل إن أوضح ردة فعل في صالح تركيا قد بدرت من الناتو. لماذا؟ لأن تركيا ذات علاقات بمنظمات دولية كثيرة جداً، إلا أن منظمة الناتو هي التي تحدد هوية السياسة الخارجية لتركيا، أي إن تركيا دولة تنتمي لحلف الناتو.
بيت القصيد هنا هو أن النخبة الإسلامية الحاكمة حالياً في تركيا كانت تبحث منذ زمن طويل عن بديل للغرب. فجرّبت أولاً التواصل مع العالم الإسلامي، ولكن النتيجة هي أن تركيا لم يبقَ لها أي صديق من بين الدول الإسلامية في الشرق الأوسط. ولا تنخدعوا بمقولة “إننا نتقاسم قدراً مشتركاً مع قطر”. فقطر عبارة عن دولة لا يتجاوز عدد سكانها مليوني نسمة. ولا يمكن تأسيس نظام إقليمي مع هذه الدولة. في حين أن نخبة السياسيين الإسلاميين في تركيا هم أفضل من يدرك مدى اضطراب العالم الإسلامي. فهم كذلك يعلمون أن تركيز الخطاب السياسي على العالم الإسلامي لا يجدي نفعاً إلا في السياسة التركية الداخلية.
ثم جرّبوا بدائل أخرى مثل منظمة شنغهاي التي تضم كلاً من الصين، روسيا،كازاخستان، قيرغيزيستان،أوزباكستان وطاجيكستان. حتى إنهم حاولوا مشاركة الصين في أمور لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع مثل نظام الدفاع المشترك. ولكن ذلك كله لم يحقق سوى بعض المكاسب التجارية الجزئية. وفي نهاية المطاف اضطر هؤلاء الإسلاميون مُكرَهين إلى العودة لأحضان الغرب بل والارتماء في أحضان الناتو.
ولكن السؤال الملح هنا هو: هل تركيا مضطرة لأن تكون غربيّة، طوعاً أحياناً وكرهاً أحياناً أخرى. ولكن لماذا الغرب نزاع إلى تركيا؟ لماذا أقامت تركيا علاقات مع حلف الناتو وانضمت إليه في 1952 مع أنها كانت دولة ديكتاتورية لا تملك الطرق والبنية التحتية في نهاية الأربعينيات؟ وكيف أصبح ذلك ممكناً؟ الجواب هو نفسه: الغرب كذلك كان مضطراً لأن يكون نزّاعاً لتركيا. فقد كانت هناك حاجة ملحة إلى تركيا لمجابهة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، وذلك في الخمسينيات من القرن الماضي. ونفس هذه العوامل تلعب دورها اليوم: فلولا الأزمة السورية، والصراع مع روسيا على القوة، ومشكلة اللاجئين؛ لكانت نخب الاتحاد الأوروبي والغرب تلقّن تركيا درساً وتنشر مواعظ ونصائح في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية بأقسى عبارات غير مسبوقة. ولكن ليس من الصواب أن نلقي باللائمة على الغرب أو على التيار الإسلامي هنا، لأنه من الخطأ أن نبحث عن المبادئ والأخلاق في السياسة العالمية التي انهارت مؤسساتها وخلت من أية قيمة بحيث أصبحت مرتعاً خالياً من أي مبدأ.
وما نستخلصه من هذه القصة هو أن النزعة الغربية وحدها لا تعني الديمقراطية، فالرئيس الأسبق عصمت إينونو كان غربيَّ النزعة إلى حد بعيد، ولكن الدولة في عهده لم تكن ديمقراطية. ولذلك يجب أن نتساءل عن صحة مقولة “الغربية = الديمقراطية” (النزعة الغربية تساوي الديمقراطية).
ومربط الفرس هنا هو أن تركيا تكتسب نوعاً من الطاقة في كل علاقة تبنيها مع الغرب. ولكن المهم هو كيفية استخدام هذه الطاقة. إذ يمكن استخدام هذه الطاقة من أجل ترسيخ الديمقراطية، أو تدعيم الاستبداد في الداخل استناداً إلى الشرعية التي يوفرها التقرب من الغرب.