سؤال: ذكرتم فيما سبق أنَّه لا يمكن حملُ الإسلامِ وتبليغُهُ إلا بواسطة منظومةٍ فعّالةٍ تُمثِّلُ الفهرسَ المعنوي للوجود كله، تتشكَّلُ من العقلِ والوجدانِ والروحِ والجَسَدِ[1]، فما المقصود بذلك؟
الجواب: كُلُّ ما ذُكِر في السؤال من عناصر يشكِّلُ في حدِّ ذاتِهِ أعماقًا مختلفةً مفطورةً في الإنسان، وهي بمثابة ركنٍ ركينٍ بالنسبة لِفَهْمِ الإسلام وتبليغِ الناس به.
العقل
إذا نظَرْنا إلى العقلِ نجدُه يؤدّي وظيفتَه في التفريق والتمييز بين الحسَن والقبيح والنافعِ والضارِّ؛ إذا ما استُخدم على نحوٍ صحيحٍ تحت مظلّة إرشادِ القلبِ والروح، لكن أنصار المذهب العقلانيّ اعتبروا العقل كلَّ شيء، كما أنَّ عقلانيِّي عصرِنا الجدد جعلوه ركنًا مقدَّمًا على الكتاب والسنة، أما بعضُ معارضيهم فقد أنكروا العقلَ تمامًا، أي إنَّ الإفراط في إعلاءِ قَدْرِ العقل من قِبَلِ فئةٍ معيّنة ولّد التفريطَ في شأنه من قِبَلِ أُخرى، وإذا ما نَظَرْنَا إلى الوضعِ العام للعالم الإسلاميّ اليوم يتَّضحُ جليًّا إهمالُ العقلِ بكلِّ وظائفِهِ، وحدوثُ الانزلاقِ المروِّع نحو التفريطِ في هذا الموضوع.
والحال أن ثمة حكمة مهمّة لخلقِ العقل؛ إنه -قبل كل شيء- مناطُ التكليفِ والعبوديّة؛ فإنْ حُرِم الإنسان من نعمة العقل حُرِم من شَرَفِ مخاطبةِ الله تعالى إيَّاه، فهو سبحانه يخاطب الإنسان بوصفه صاحبَ عقل، ويعقد الصفقات بين الإنسان وبينه سبحانه، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 40/2)، وقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 152/2)، وفهمُ هذا وممارستُه مرتبطٌ بالعقل، أما إدخالُ الله تعالى عبدًا فاقدَ العقل الجنةَ أو عدم إدخاله إياه فهذه مسألةٌ أخرى، غير أن نَيلَ الإنسان شرفَ مخاطبة الله تعالى إيّاه في ظلّ نعمة العقلِ وفهمه الأوامر الشرعية المنوطةَ به وتطبيقه إيّاها أمرٌ شديدُ الأهمّيّة بالنسبة لِفَهْمِ مكانةِ العقلِ وقيمتِه في الدين.
وإلى جانبِ ما سبقَ يُـمثِّلُ العقلُ العنصرَ الأساسَ في فهم الأشياء المرئيّة والمحسوسة، غير أنَّ له دائرة محدّدة تتناسبُ مع طبيعتِهِ هو؛ إذ إنه قد يَزِلُّ ويحيدُ عن الصواب في أيِّ وقتٍ ما لم يزن بميزانِ الشرع ما يحصل عليه من معلومات، ولهذا فلا بدَّ أن يُقدّر العقل بقدر قيمتِه التي يستحقّها، ومن جهةٍ أخرى فإنكم تَشلّون جانبًا من الآليّة أو النظام الذي تمتلكونه إذا ما عزلتم العقل ونحيتموه جانبًا دون أن يقوم بوظائفه كلها؛ ومن ثَـمَّ فَنِظامٌ شُلَّ على هذا المنوال يستحيلُ أن يؤدّي الوظيفةَ المرجوة منه، وكما يتعذَّرُ على سيّارةٍ تنقصُها دوّاسة الوقود أن تتحرّك بأيّة حال بالرغم من سلامتِها ووجودِ كلِّ أجزائها في أماكنها؛ فإن النظام العام للإنسان أيضًا يُصاب بالشلل ما لم يؤدِّ العقلُ -أحدُ أهم أركان هذا النظام- المهمةَ المطلوبةَ منه والمنوطةَ به.
الوجدان
يشكِّلُ الوجدان ركنًا آخر من أركان هذا النظام، وعلى حدِّ تعبير فضيلة الأستاذ بديع الزمان فإنَّ للوجدان أربعةَ أركان هي: الحسُّ والإرادةُ والشعورُ واللطيفةُ الربّانيّة، وللّطيفة الربانية أعماقٌ هي: “السرُّ” الذي هو وديعةٌ ربَّانيةٌ في قلب الإنسان، و”الخفيُّ” المتعلّق بالصفات السبحانيّة والله أعلم، و”الأخفى” الذي يمكننا أن نسميه أفق البحث عن “الذات البحت”، وإنَّ عدم معرفة الأمّيين من أمثالنا بمثل هذه الأمور ليس دليلًا على عدمِ وجودِها؛ لأنَّ مَنْ أدركوا هذه الآفاق أخبرونا عنها بِفَضْلِ تجاربِهم الروحيّة.
وإذا اجتمعت كُلّ هذه العناصر التي تُشَكِّلُ آليَّةَ الوجدان يتحقَّقُ “الحَدْس”، ويمكننا أن نسمي هذا بـالحسّ الداخلي، أو التقييم أو التحليل الداخلي؛ حيث إنَّ الإنسان يُرشِّحُ الأشياءَ والحوادث التي تقعُ في العالم الخارجي ويُصفِّيها بواسطة الحدس هذا، ويفهمُها فهمًا صحيحًا، غير أنه إذا ما أهمل ولو حتى عنصرًا واحدًا من تلك العناصر الخاصة بالوجدان فإنه يتعذَّر عليه تشغيلُ الوجدان تشغيلًا تامًّا، وإننا لنشُلُّ ذلك الموجود المسمى بالإنسان حين نُعَطِّل آليّة الوجدان التي هي ركنٌ أساسٌ في منظومتِهِ، وفي مثل هذه الحالة تنعدمُ قيمةُ وأهمّيّةُ كونِ هيئةِ الإنسان وبنيته البدنيّة وملامح وجهه وأعضاء بدنه من عينٍ وأُذُنٍ وشفةٍ… إلخ فائقة الحُسْنِ والجمالِ.
الروح
الروح هي الأخرى ركنٌ من أهمِّ أركان هذه الآليّة العجيبة الـمُلغزة، فهي نظام يفوق اللطيفة الربانية، وقد قال الأولياء عند تحديد خطِّ السير والسلوك الروحانيّ: ينبغي الانتقال من اللطيفة الربانية إلى الروح، فللروح جانبٌ إلهيّ؛ إذ إنها هدية نضرة نَدِيَّة جاءتنا من عند الله تعالى باعتبارها نفخةً إلهيّة؛ فنُحَسُّ بها ونُرَى ونُعرَف ونُراعى، إنها أمانة إلهيّة؛ ولذلك فإنَّ القفز من اللطيفة الربانية إلى أفق الروح تعبير عن احترام هذه النفخة الإلهية التي أودعها الله تعالى فينا أمانةً منذ بداية الخلق؛ قال تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ (سُورَةُ الْحِجْرِ: 29/15)، وهذا في الوقت نفسِه أفقٌ عالٍ مَن يرْتَقِ إليه يُحِس ويشعر بأنَّ مصدَرَهُ إلهيٌّ صِرْفٌ، ومهما كان نيلُ اللطيفة الربانية والفوزُ بها مرتبة مهمة فإنَّ من يَحبُون في مرابِعِها ولا يتسنى لهم الصعود إلى أفق الروح يتعذَّرُ عليهم الإحساس بشيءٍ كثير بالنسبة لتلك المنة الإلهية.
الجسد
نضيف إلى ما تقدم من العناصر عنصر الجسد الذي هو الجانب المادي من الإنسان، وكما أنَّ أنظمةً كالعقل والوجدان والقلب والروح التي تشكل الجانب المعنوي من الإنسان مهمَّةٌ للغاية؛ فإنّ الجسد الذي يمثل الجانب المادِّيَّ منه ذو أهمية خاصة به أيضًا؛ فالقدرةُ على عبادة الله تعالى، وأداء عبادات كالصلاة والصيام والحجّ أمرٌ مرتبطٌ بسلامة تشغيلِ هذا النظام، وكما أننا لا نُدركُ ما الذي يحدثُ بأدائنا الصلاة وخشوعنا بين يدي الله تعالى وتلاوة القرآن؛ فإَنَّه يتعذَّرُ علينا كذلك أن نعرف كيف سيكون مردودُ القيام بهذه العبادات، وكما أخبرتنا الأحاديث النبوية الشريفة فإنه: “إِذَا أَحْسَنَ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا قَالَتِ الصَّلَاةُ: حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي فَتُرْفَعُ، وَإِذَا أَسَاءَ الصَّلَاةَ فَلَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا قَالَتِ الصَّلَاةُ: ضَيَّعَكَ اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي فَتُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلِقُ فَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُهُ“[2].
ومن جانبٍ آخر فإنَّكم تُهَذِّبون أجسادكم وتُربُّونها بعباداتكم التي تؤدّونها بدنيًّا؛ فهي تحقق مجموعةً من الفوائد للإنسان بالنظر إلى بنيته الطبيعيّة والتشريحيّة، غير أنَّها لم تُبنَ على هذا النوع من الحكم والمنافع، بل شُرِعَت لِتأهيلِ الإنسانِ للجنّة وتخليده فيها، ولكي يحظى برؤية الله سبحانه، ويبلغَ مستوى يُرضي الله عز وجلَّ، أي إنّه حتى وإنْ كانت ثمة مجموعةٌ من الفوائد الدنيوية وبعض المنافع التي تصبّ في صالح تربية النفس تتحقّقُ وتنجمُ عن عبادات كالصلاة والصيام والزكاة إلا أنَّ الثمرة الحقيقية من ورائها تُجنىَ في الدار الآخرة.
والجسدُ من حيث كونه وسيلة لنيل الإنسان هذه النعم كلها وفوزه بها في الآخرة هو من النعم والهباتِ الإلهيّة الغالية، ولقد جرى التأكيدُ على هذه النعمة منذ النشأةِ الأولى حينما خُلِقَ آدم عليه السلام، إذ أمر الله تعالى الملائكة بالسجودِ له؛ فسجدوا أجمعون إلا إبليس تكبَّرَ ورفض الانصياعَ للأمر ولم يكن من الساجدين، وهو ما حكاه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 34/2). نعم، لم يسجد إبليس تكبُّرًا منه وأنانيّةً وغرورًا، بينما رأى الملائكةُ ما في الإنسان من وسعة وما يكمن في الانصياع للأمر من دقّة ورقّة فَخَرُّوا ساجدين، فكان هذا بمثابة عملية إلهيّة لإثارة الاحترام لدى الأرواح لجسدِ آدم عليه السلام، وكما صرحتُ في مناسبات شتى سابقًا فإنه لو جاز السجودُ لأحد سوى الله لجاز السجودُ للإنسان؛ لأنه مخلوقٌ مُكَرَّمٌ بالنظر إلى بنيته الداخلية والخارجية.
وباعتبارِ طبيعةِ الملائكة فإنّهم مدركون الدقَّةَ التي في إطاعةِ الأمر، ويعرفون أسرارَ الألوهيّة، ويعيشون منفتحين على عالم الملكوت، ويتسنّى لهم التواجد في أكثرَ من مكان في آنٍ واحد، غير أنهم لا يستطيعون أن يشعروا تمامًا بخصائصِ العالم المادّي، ولهذا السبب تعجّبوا أمام موجودٍ غريبٍ كالإنسان؛ فقالوا تعجُّبًا منهم لا اعتراضًا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ (سُورَةُ البَقَرَةِ: 30/2)؛ وذلك لأن الإنسان مخلوقٌ يفورُ شهوةً، وأنانيّة، وفخرًا وغضبًا وعقلانيّةً، وهو بالنظر إلى جوانبه هذه كائنٌ مُهيَّأٌ لمقارفةِ المساوِئِ والعيوبِ، غيرَ أنه سرعان ما يرتقي إلى أن يكون عبدًا لله مقبولًا محبوبًا محمودًا عند ربّه جلّ وعلا ما إن يُهَذّب كلّ هذه الأمور؛ فيخلق الله تعالى بكلّ هذه الشرور النسبية خيرًا كثيرًا، أي إنَّ الملائكة لا تستطيع معرفة هذا الجانب من الأمر، والإنسانُ باعتبار بنيتيه الروحية والجسدية، والعلاقة القائمة بينهما يتضمن معاني ونكاتًا لا تستوعبها الكتب.
وعليه فإنَّ فهم الإسلام بهويته الأصلية ورحابته وشموليته الصحيحة وتطبيقه وتبليغه إنما يتحقَّقُ باستخدام أجزاءِ هذه الآليّة كلٌّ في مكانه دون إهمالٍ لأيٍّ منها على الإطلاق. أجل، ينبغي استخدام العقل والوجدان والروح والجسد كلٌّ لما خُلِقَ له، وفي الاتجاه الذي أُوجِدت من أجله؛ لأن الإنسان لا يمكنُهُ أن يؤدّي حقَّ الأداء ما كُلِّف به من وظيفة ومهمّة إنْ أهمل أيَّ واحد منها.
[1] فتح الله كولن: ونحن نقيم صرح الروح، دار النيل، القاهرة 2008م، ص 23.
[2] أبو داود الطيالسي: المسند، 479/1؛ مصنف عبد الرزاق، 587/1؛ الطبراني: المعجم الأوسط، 263/3.
من موقع herkul.org