بقلم: أ.د. عرفان يلماز
تحياتي أيها الإنسان!
لك الشكر لأنك أدركت وجودي ولم تسحقني تحت أقدامك. كم تقتل كل يوم من أبناء جنسي تحت أقدامك، هل فكرتَ بذلك؟ من المؤكد أنك تفعل ذلك دون قصد! حسناً. إن كل نملةٍ أو حشرة صغيرة مثلي إنما هي آية خارقة من آيات الفن والإبداع لن تستطيع الإتيان بمثلها. ربما تكون هذه الدلائل بديعة الصنعة مصدر إلهام لك. إن صنع ساعة صغيرة يتطلب من صانعها إرادة وم هارة فائقة في جمع وتركيب أدوات عديدة وأجزاء دقيقة حتى تستطيع حساب الوقت بدقة وكفاءة. أما أنا فأتفوق على هذه الآلة دقةً وكفاءة وأُعتبر أقوى حيوان على وجه الأرض، فإن خلقي لا يمكن أن يتم إلاّ بالعلم الواسع والقدرة اللامتناهية للخالق البارئ.
قد تتعجبون وتستغربون من قولي إنني أقوى مخلوق. ولكن هذا القول ليس بالغريب إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية مبدأ التناسب. فأنتم تستطيعون حمل أثقال ضعف أوزانكم أو ثلاثة أضعافها. أما أنا فأحمل بأسناني خمسين ضعف وزني. هكذا أنا، تحفة ربانية وآية فنية رائعة.
إنني أشكل جمعاً غفيراً يُعدُّ أكبر مجموعة بين أجناس وفصائل الأحياء. كل أربعين ولادة جديدة عندكم يقابلها عندنا سبعمائة مليون ولادة. رغم عددنا الهائل هذا، لا نسبب أي إزعاج أو إفساد في هذا العالم، بل ننشغل بأداء الواجب الإلهي المقدّر لنا بكل همة وتنسيق وحُسن أداء بعيداً عن أنظاركم. تجدوننا في جميع أرجاء وبقاع الأرض ما عدا المناطق القطبية، لأننا نفضّل العيش في المناطق الدافئة.
نحن مخلوقات اجتماعية وجماهيرية النـزعة. نعيش مع بعضنا ونؤدي واجباتنا المقسومة والمقدّرة لنا بكل حرص وطاعة متناهية مستهدين بالمعرفة والقدرة الربانية التي توجّهُنا. نؤسس مستعمرات سكنية كبيرة كالمدن العظيمة تعيش فيها ملايين منا؛ ولنا فيها مخازن لِقُوتِنا، وبيوت لتربية صغارنا وقلاع لجنودنا. نتوزع في فصائل تتجاوز تسعة ألاف، يتألف كل فصيل بحسب المنهاج المعدِّ في خَلقه من الشغيلة العاملة في التنظيف، إلى المزارعين ومربي الحيوانات. وتتمتع كل فصيلة بصفات وميزات جسدية تؤهلها لأداء الواجب المحدد لها.
لعل ميزتنا الكبرى تتجلى في دقة التنظيم الاجتماعي الذي لم تستطيعوا أنتم البشر تحقيقه فيما بينكم حتى الآن. ورغم وجود الأنبياء والرسل بينكم، لم تصلوا إلى تأسيس مجتمع مثالي (عدا فترات قليلة مثل عصر النبوة السعيد وفترات متفرقة على شاكلته). ورغم تجهيزكم بمميزات مثل العقل والإدراك والمشاعر، إلاّ أنكم تمتلكون أيضاً الأحاسيس السيئة والنفس الأمارة بالسوء كأدوات اختبار وامتحان تقف عثرة أمام وصولكم إلى تأسيس المجتمع المنشود.
نحن مع عجزنا وضعفنا، نستند إلى ما أوحاه لنا خالقنا، وما فصّله لنا من نمط الحياة، بطاعة تامة وتسليم مطلق دون تفسير أو تأويل. وبعملنا الدؤوب وهمّتنا المتواصلة استطعنا تأسيس نظام مملكة ودولة ومؤسسات بالغة الكمال والتنظيم.
حياتنا الاجتماعية
هذه الحياة التي تأسست بوحي الخالق تعتمد على مبدأ التفاني والتضحية. يقوم كل فرد بأداء ما يوكل إليه مِن واجبات، دون التدخل في أمور الآخرين، وتتقدم مصلحة المجموع على مصلحة الأفراد وصولاً إلى حياة اجتماعية قاعدتها الذهبية “التنظيم والتنسيق”.
هذه التصرفات التي تعتبر صفة امتياز لكم أنتم بني البشر لا يمكن مطلقاً تفسيرها أو تأويلها استناداً إلى نظريات التطور والتغيير والانتخاب الطبيبعي. إن أنصار نظرية التطور يدّعون أننا تطورنا قبل ثمانين مليون سنة من نحلة برّية نتيجة عوامل التنازع على البقاء. أيْ كنا نعيش على شكل أفراد فأحسسنا بفوائد ومزايا العيش في مجموعات كثيفة لنحافظ على ديمومتنا فقلنا لبعضنا البعض: “لنكن حشرات اجتماعية، لأن العيش في مجموعة أفضل وأصلح لنا من نزاعنا على البقاء بين الأجناس والأنواع الأخرى”. لنَقبل جدلاً أننا توصلنا إلى هذا المنطق والتفكير واتفقنا عليه، كيف إذن توصّلنا إلى خلق أصناف متعددة، وهذا التنوع في الوظائف، ثم هذا التقسيم في المهام وما يتطلبه من مميزات وآليات بدنية خاصة لكل صنف لكي يؤدي وظيفة محددة إلى جانب آليات التكاثر؟ ليس لدينا كل هذا العلم، كما لا نملك هذه القدرة.
الملكة – العاملة – الجندي
كيف بدأ تقسيمنا حسب متطلبات واجباتنا منذ بداية خلقنا ووجودنا إلى ملكات وعاملات وجنود، وكيف أتت كل هذه الفروق؟ من الذي أقنع عاملاتنا على التخصص والتفرغ لخدمة ورعاية الملكات؟ حسب نظرية التطور فإن كل فرد يفكر لنفسه فقط، وهو في نزاع وصراع دائم مع غيره للبقاء. مَن الذي أوكل لجنودنا مهمة الحراسة؟ مَنْ غيرُ صاحب “القدرة اللامحدودة” يمسكُ هذه الملايين من الأفراد ضمن مجموعة متعاونة ومتفانية؟!
تمتد سيطرة بعض ممالكنا إلى حوالي 2,5-3 كيلومتر مربع من الأرض. وتتشكل كل مملكة من أربعين إلى خمس وأربعين مستعمرة تترابط فيما بينها رغم وجود مليون من الملكات وأكثر من ثلاثمائة مليون من العاملات، تعيش في تناغم وتناسق دون حدوث أي اضطراب أو إزعاج.
ملكاتنا مكلّفات بوضع البيوض مدى الحياة لديمومة واستمرارية بقاء الخلية، وقد توجد أكثر من ملكة في كل خلية. واجبات الذكور المتميزين بكبر أحجامهم تنحصر في نقل الحيامن إلى الملكة خلال جولة قصيرة من الطيران، وتنتهي بعدها حياتهم إلى الفناء.
جنودنا مجهزون بأسلحة كيميائية خاصة، وواجبهم الحفاظ على أمن وسلامة الخلية بما زُوّدوا به من أسنان ورؤوس قوية. هؤلاء لا يفكرون مطلقاً بالقيام بانقلابات أو ثورات. ينحصر تفكيرهم في مستقبل دولتهم دون أن يخطر على بالهم الحصول على المنافع أو اللجوء إلى استخدام وسائل قذرة وتحت أستار الظلام. العاملات المسؤولات عن الحياة الاقتصادية لمملكتنا أناث عقيمات قاصـرات عـن الإنجاب.
يقوم قسم من العاملات بتغذية وخدمة الملكة والأجنّة بكل همة ونشاط. بينما تنهمك أخريات في تهيئة مساكن إضافية وحفر أنفاق للقادمين الجُدد، وتخرج أخريات في مهام الكشف والتفتيش عن مصادر الطعام، ومتى ما وجدوا مصدراً جديداً للغذاء يخبرون الآخرين عن مكانه. وهناك فئات وتشكيلات ثانوية بين الجنود والعاملات تتوزع مهامها في أعمال البناء وجمع القوت وتربية النسل الجديد وحراسة الأسرى، ومجموعات متخصصة للسلب والنهب.
العاملات المخلصات
اقتصاد مملكتنا يقع على عاتق عاملاتنا. فهي تستعمل أفواهها المسلحة بفكوك متينة لتكسير وتفتيت حبات القمح رغم صلابتها، ومن ثم طحنها وتسليمها إلى مجموعة أخرى من العاملات لكي تقوم بعجنها ونشرها لتجف تحت الشمس على شكل أقراص رقيقة تُخزن مؤونة لموسم الشتاء.
تكييف الأجواء داخل الخلية
مئات الخلايا التي تشكل مملكتنا تمتاز بوجود معايير دقيقة جداً في تأمين الظروف المناخية الجيدة داخلها. نحن الذين لم ندرس أو نتعلم علم الأنواء الجوية والمناخ أو فيزياء التكييف، بل لا نعلم كيف يجب أن تكون شروط تهيئة الظروف المناخية الملائمة، نجد أنفسنا، وبتوجيه إلهي حكيم، قد هيأنا فعلاً أجواءً وظروفاً متوازنة عجيبة. إنّ بناء مداخل الخلايا باتجاه الشمس وضبطها اعتماداً على المجال المغناطيسي للأرض، وعزل منافذ التهوية، وخلق أجواء مناخية داخل الخلية بالمحافظة على الحرارة المناسبة طيلة ساعات النهار، كل هذه الأمور ليس لنا أي علم أو دراية بها. نحن لا نملك العلم الكافي لاتخاذ القرار الخاص بفتح منافذ جديدة للتهوية، ولا بالسيطرة على توازن الحرارة والبرودة عند توسيع مساحة الخلايا لاستيعابها أعداداً إضافية جديدة، ولا بتحديد حجم واتجاه التوسعات المطلوبة بشكل لا يحدث خللاً في أجواء المستعمرة… كلا فالاستقرار والسكينة يجري تأمينهما في مملكتنا بالإلهام المستند إلى التقدير الرباني الذي لا حدود لقدرته وعلمه. فحين يشح الغذاء -مثلاً- تبادر العاملات إلى تقديم خدمات وآلية تغذية خاصة. فهي تمتلك خاصية في معدّاتها الإضافية الاحتياطية حيث تتحول المادة الغذائية إلى حالة مركزّة عن طريق معاملتها بمواد كيميائية تتم بها تغذية الأفراد التي أصابها الضعف والهزال. وحالما تنتهي حالات نقص الغذاء، ترجع هذه العاملات إلى الأوضاع الطبيعية التي كانت عليها. كيف يتسنى لمملكة تعدادها خمسون مليون فرد أن تخلو تماماً من المصاعب والخلل لولا هذه التضحيات؟!
نحن نؤمن بمبدأ “الوصول إلى الهدف بأقصر طريق”. نخرج للبحث عن الغذاء بنسق واحد ونعتمد في متابعة طريقنا على الروائح التي يتركها الآخرون.
إنّ مساكننا ليست دائما تحت الأرض. فبعض الأنواع منا تسكن فوق الأرض، وأخرى تبني أعشاشها على النباتات والأشجار. الأنواع التي تعيش تحت الأرض لا تملك أجنحة عادة. وإنما تتحول إلى أفراد قابلة للتكاثر وذات أجنحة عندما يحصل ازدحام كبير ويتقرر تشكيل مستعمرة جديدة فتغادر المستعمرة طائرةً، ويتم تلقيح الملكة من قِبَل الذكور قَبل أن تحط المجموعة على الأرض. وهنا ينتهي دور الذكور وتموت، بينما تستمر الملكة بإنتاج البيوض طيلة حياتها. هنا تسقط أجنحة الملكة لعدم الحاجة إليها، وتبني لها غرفة تضع فيها بيوضها في صفوف. وبعد ستة أو ثمانية أسابيع تفقس لتخرج منها العاملات البالغات التي تتغذى على ما تطرحها الملكة مِن إفرازات، وسرعان ما تبدأ العاملات ببناء وتشييد خلايا وأماكن جديدة.
كذلك نتمتع بذاكرة قوية جداً حيث نلتقط صوراً لكافة الأماكن التي نمرُّ بها ونحفظها ونخزّنها في ذاكرتنا، لكي نعود ثانية إلى أعشاشنا إذا ما ابتعدنا عنها. ونعتمد في ذلك على ما وهبنا الخالق “الحافظ” من مكرمة الحفظ. نمتلك أيضاً موهبة نقلِ وإيصال المعلومات ومنظومات تبادل الأخبار فيما بيننا. وكما ورد في الآيتين (18-19) من سورة النمل كان نبي الله سليمان عليه السلام يفهم لغتنا. نعم إن لجميع الكائنات والموجودات لغاتها الخاصة، غير أنّ القرآن الكريم تحدث صراحةً عن لغة الطيور، وضمناً عن لغتنا. إن ربنا الذي أنزل القرآن لتقرأوه وتتدبروه وتفقهوه وتنظموا حياتكم ومعاشكم وفقه يكشف أمامكم حقائق ومعارف كثيرة تتوصلون إلى إدراكها لو أمعنتم النظر جيداً. إن الله جل جلاله سمى سورة مِن سور الكتاب الحكيم بـ”سورة النمل”. هذا الكتاب الذي يعتبر بمثابة فهرست الكائنات والموجودات؛ أليس في تلك التسمية حكمة بالغة؟!
لماذا يا ترى سمّيت سورة كاملة باسمي، أنا المخلوق الصغير الذي لا يكاد يُرى بالعين عندما أمشي على الأرض فأتعرض للسحق تحت الأقدام أحياناً؟
لنتذكر معاني الآية الثامنة عشرة من سورة النمل (حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُم سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ)(النمل:18)
سوف نتوصل إلى إدراك بعض النتائج انطلاقا من الآية الكريمة: 1. لنا لغتنا الخاصة بنا. 2. تحكمنا وتديرنا سلطة موحدة تخطط وتفكر وتعمل لمصالحنا وتتبع سياسة حكيمة في إدارتنا. 3. نتحرك تبعاً لأوامر تصدر إلينا ونتَخابر فيما بيننا. 4. نمتلك حياة اجتماعية منظمة وجماعية. 5. عندنا المخابرون والمراسلون، ومَن يؤمّنون التنظيم والسيطرة.
لقد توصلتُ إلى هذه الحقائق من آية قصيرة رغم إدراكي المحدود. وأنتم كذلك بإمكانكم أن تتصوروا وتدركوا أنّ الأرض تهتز وتنقل أمواج الاهتزاز تحت أرجل جيش سليمان عليه السلام وتصلنا عبرها أخبارهم لو أمعنتم فقط النظر بعين عالم طبقات الأرض “الجيولوجيا” وعلوم الأحياء. لقد كنا نحسُّ وندرك أقل اهتزاز يحصل على وجه الأرض بما لدينا من وسائل وإمكانات للالتقاط والاستشعار في أرجلنا وانحاءات أجسامنا في وقت لم يكن أحد قد توصّل إلى معرفة ذلك أو حتى علم بها.
لقد أدرك علماء الأرض مؤخراً ومتخصصو الزلازل ومراقبو عالم الحيوان حقيقة خروجنا نحن النمل من أعشاشنا وتركنا لمستعمراتنا قبل وقوع الزلازل.
لقد كان أجدادكم أكثر انتباهاً منكم لهذه الحقائق. فلم يكونوا يشيّدون مبانيهم في أرض لم نكن بنينا عليها مستعمراتنا. لقد أدركوا أننا لا نبني أعشاشنا على تربة غير مستقرة وغير متماسكة. كما أدرك مؤخراً مهندسو العمارات العالية إلى ما توصلنا إليه نحن من وسائل رخيصة وعملية في تنظيم التهوية والمحافظة على الحرارة. ومن جهة أخرى بدأ علماء الحاسبات في إيجاد الحلول والتصاميم الخاصة بتأمين سلامة انتقال ونقل خزانات الوقود وإيجاد وسائل تحول دون تعرضها للحوادث، كل هذا استناداً إلى برنامج خاص سمي باسمنا، مستأنسين إلى ما تتبعها مملكتنا من وسائل خاصة في إدارة شؤونها.
إنّ ما يدعو إلى أسفنا ويحزُّ في نفوسنا عدم إدراككم هذه الحقائق، أنتم الذين تُسمَّوْن بأصحاب القرآن الحكيم رغم ما تؤكده آياته عليكم من ضرورة ووجوب قراءة كتاب الطبيعة والخلق والتفكرُّ فيه. بينما يتوصل غيركم إلى إدراك تلك الحقائق على الرغم من أنهم لا يعرفون شيئا من القرآن.
إن جميع أنواعنا سواءٌ تلك التي تتغذى على البقايا الحيوانية أو النباتية تؤدي خدمة جليلة وهي خدمة التنظيف، فهي أثناء عملها تنظف وجه الأرض وتحول دون تحوّلها إلى مزبلة كبيرة مروعة. ولكي نستطيع تأدية هذه المهمة، زَوَّدَنا الخالق القدوس بزوجين من الفكوك في أفواهنا؛ الفك الخارجي أكبر حجماً ويفيد في حمل الطعام وحفر الأرض، بينما الفك الداخلي الأصغر يقوم بتفتيت الطعام وتقطيعه.
عزيزي ابن آدم!
وأنا أنهي كلامي، أتمنى أن تلاحظ مستقبلاً حينما تخطو على الأرض جمال هذا المخلوق الصغير وكيف أنه آية من آيات الفن الإلهي العظيم. كما أرجو منك ألا تَسحق إخواني، وأن تعاملهم كما عامل سليمان عليه السلام أجدادنا.. ولك مني خالص التحية والتقدير… والسلام…
من موقع مجلة حراء