عمر نور الدين
لعل من يرون في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بطلا أسطوريا من عهود الماضي الجميل الذين يأسرون القلوب ويسحرون الجماهير بالحركات الاستعراضية والصوت المؤثر.. والذين هللوا لإسقاط الطائرة الروسية باعتبارها حركة جديدة من بطلهم أردوغان لكسر أنف القيصر الروسي فلاديمير بوتين.. يدركون الآن أن الأمور لا تمضي على هذا النحو في زمننا هذا.. وأن زمن البطل الأسطوري و” شجيع السيما” ليس له مكان وسط الخطط الاستراتيجية وألعاب الموت في سياسات الدول الكبرى.
إسقاط الطائرة الروسية هو بمقاييس السيادة الوطنية أمر لابد أن يحترمه الجميع، لكن ماذا إذا تبين أنه كان فخ يمكن تجاوزه لتلافي أضراره وتبعاته؟ .. فألم يكن أجدى لهذه السيادة الوطنية ولقيمة ومكانة الدولة أن يتم التغاضي عن خطأ صغير مع إصدار التحذيرات اللازمة بالطرق المعروفة دبلوماسيا، بدلا عن الوقوع في فخ نصب بعناية لفرض الحصار على تركيا سياسيا واقتصاديا وعسكريا وتقليم أظافرها وحرمانها من حقوقها، والاستمرار في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير ” المشؤوم” من دونها بعد أن كانت شريكا فيه واستنفد دور الشراكة هذا، وحان وقت تحويلها إلى أداة معطلة في هذا المشروع التدميري؟
سندع العقوبات الاقتصادية الروسية جانبا، لأنه بغض النظر عن تأثيرها أو قدرة تركيا على تفاديها بالاستعانة بمصادر أخرى لتغطية الخسائر، فهي ليست بيت القصيد في سيناريو الطائرة الروسية وما أعقب إسقاطها، والخطوات التي اتخذت وتلك التي ستتخذ، والتي تكشف يوما بعد آخر عن حجم قصر نظر السياسة الخارجية لتركيا التي تأثرت بالتغول الكبير للرئيس على سلطات الحكومة وعلى عقل الدولة ومؤسساتها، وتكشف أيضا عن حجم الفخ الكبير الذي سقطت فيه تركيا بفعل الحماسة والسياسات الديماجوجية والانفعالية.
أولى ملامح هذا الفخ تبدت في الحظر الذي فرض على الطيران الحربي التركي ووقف تحليقه خارج الحدود بقرار من مجلس الشورى العسكري، خوفا من الاستهداف الروسي الثأري، وبرغبة من الولايات المتحدة أيضا التي تماشت مع تركيا في البداية بالعبارات الرنانة من قبيل إن من حق تركيا الدفاع عن نفسها ثم قررت عدم مشاركة تركيا في عمليات التحالف ضد داعش منعا للاحتكاكات مع الطيران الروسي.
إذن لن تتمكن تركيا من التحليق خارج أجوائها لا في شمال سوريا ولا في شمال العراق أيضا وبالتالي فلا ضربات استباقية لعناصر منظمة حزب العمال الكردستاني أثناء تسللهم عبر الحدود من جبال قنديل بشمال العراق إلى داخل تركيا.
وبدلا عن أن تحقق تركيا مطلبا سعت إليه طويلا بفرض منطقة حظر جوي داخل الحدود السورية أصبح الحظر مفروضا على طيرانها ولم يعد مسموحا له بالاقتراب لأكثر من 3 أميال من الحدود السورية.. أي أن منطقة الحظر صارت داخل الأراضي التركية.
واستمرارا مع هذه التبعات، تحركت حكومة العراق أيضا في خطوة مفاجئة لتحذر تركيا وتهددها باللجوء إلى مجلس الأمن إذا لم تسحب قواتها التي كانت نشرتها في منطقة بعشيقة في الموصل شمال العراق لتدريب قوات البشمركة التابعة لإقليم كردستان دعما لها في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي.. وبهذا أصبحت تركيا تواجه بضغط مزدوج من العراق وسوريا بتنسيق أمريكي روسي.
ولعل ما قاله بالأمس القنصل التركي العام السابق في الموصل أوزتورك يلماظ، الذي احتجز رهينة لدى داعش لأشهر خلال العام الماضي مع 48 آخرين من العاملين بالقنصلية، يكشف عن مدى تخبط السياسة الخارجية لتركيا، وعن مدى الاستسلام للفخ المنصوب لتركيا على حدودها في العراق وسوريا.
قال يلماظ، الذي أصبح الآن نائبا عن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، في البرلمان إن تركيا لا تعرف ما هي خطوتها القادمة في الموصل وليست لديها رؤية لمستقبل المنطقة حتى إذا تم تطهيرها من تنظيم داعش الإرهابي عبر تدخل بري للقوات التركية.
وتساءل يلماظ:” حتى إذا نحجت تركيا عبر تدريبها ودعمها لقوات البشمركة الكردية في شمال العراق في جعل هذه القوات تسيطر على الموصل، فما هي الفائدة التي ستعود عليها من ذلك؟” .
وقال يلماظ إن القوات التركية الموجودة في الموصل ليست وحدة تنفيذية ولا أعلم لماذا أخفت الحكومة التركية هذه الحقيقة، مشيرا إلى أن المجتمع الدولي يتحدث منذ عام حتى الآن عن تطهير الموصل من داعش لكن لم يتم اتخاذ أي خطوت فعالة على الرغم من ذلك، وحتى إذا تم ذلك فمن ستكون له السيطرة ؟، بالطبع ستذهب للقوات الكردية كما حدث في سنجار، لافتا إلى ان قوات البشمركة التابعة لإقليم كردستان شمال العراق تسعى للسيطرة على كركوك والموصل لتوسيع نطاق المنطقة الخاضعة لسيطرتها.
ورأى يلماظ أنه في حال تحقق هذا السيناريو فإن منطقة أوسع ستخضع لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سوريا.. لا أدري ما هي الحكمة من مساعدتنا للآخرين على توسيع نفوذهم، وما هي العوامل التي تستند عليها سياسة تركيا الخارجية إذا لم تكن هناك حسابات دقيقة للخطوة الثانية والثالثة.
إن كلام يلماظ يجب أن يؤخذ على محمل الجد لأنه أحد الخبراء الذين درجوا في العمل الدبلوماسي وانخرطوا في الممارسة الفعلية للسياسة الخارجية ومن أكثر من لامسوا الأوضاع على الأرض في الموصل.. ويمكن اعتبار هذا الكلام شهادة قوية على فشل وعجز السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم العدالة والتنمية الذي لطالما تحدث عن الخبرة والاحتراف والدراية العميقة بشؤون المنطقة.. ” وشهد شاهد من أهلها”..
وتصديقا لما قاله يلماظ، تحول تحريك القوات التركية في الموصل، والتي كانت موجودة بالأساس وكان سيتم إجراء استبدال بعض عناصرها، إلى فرصة لروسيا لتتقدم بطلب إلى مجلس الأمن الدولي لعقد مناقشات مغلقة حول التحركات العسكرية التركية في سوريا والعراق.
إن روسيا ستصبح بعد إسقاط طائرتها مثل الشبح الذي يظهر أمام تركيا في كل خطوة وستستغل قوتها في بنية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي للضغط على تركيا ومضايقتها مع استمرار محاصرتها داخل حدودها سواء من ناحية سوريا والعراق أو من ناحية أرمينيا التي نشرت آلاف القوات والآليات العسكرية على حدودها مع تركيا مستغلة القطيعة ببين أرمينيا وتركيا لتنقل حدودها لتتماس مباشرة مع تركيا.
تحركت روسيا سريعا لإحكام الفخ حول تركيا بضم العراق إلى جانبها مستغلة النفوذ الإيراني على حكومة حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الذي هدد تركيا باللجوء لمجلس الأمن إذا لم تسحب قواتها من الموصل وأعلن أمس أن غالبية النفط المنتج من أراض يسيطر عليها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، يتم تهريبه عبر تركيا متماشيا في ذلك مع تصريحات مماثلة من روسيا وإيران.. بينما وضح أن أمريكا حليف تركيا تتماشى مع السياسة الروسية والإيرانية بعد أن أعلنت أن الأسد سيبقى في الحكم لمدة عامين في سوريا ودعت المعارضة للتعاون مع قوات الأسد لدحر داعش..
إذن نجحت روسيا عبر سيناريو استفزاز تركيا لإسقاط طائرتها في نشر قواتها وأنظمة دفاعها الجوي وطراداتها البحرية العملاقة على حدود تركيا لتأمين ألأسد وتعزيز قوته، وفرصت حصارا مشددا على الحدود التركية من من اتجاهات أرمينيا وسوريا والعراق، وعزلتها تماما عن التحالف الدولى لضرب داعش، وأفقدتها القدرة على المناورة بقواعدها الجوية التي فتحتها لقوات التحالف بلا ثمن، وأكمل الغرب خطته بجعل تركيا منطقة عازلة كبيرة للاجئين السوريين وحاضنة لكل من تعيده أوروبا من اللاجئين مقابل وعد بثلاثة مليارات يورو والسماح للأتراك أو بعضهم بدخول دول الاتحاد الأوروبي بلا تأشيرة، ولكن بعد استيفاء 72 شرطا.. وستواصل روسيا الضغط على تركيا اقتصاديا وفي المحافل الدولية.. ليتضح أن الفخ نصب لتركيا بعناية وأنها تتدحرج إليه سريعا بسبب قصر نظر صناع سياستها الخارجية.