بقلم: نور الدين صواش
كلما فارقتها شعرت بالحنين إليها. حاولت أن أعيش في مدينة أخرى لفترة طويلة ظننت فيها أنني نسيتها. وفي يوم ممطر نزلت في كراج “حرم” للحافلات بعد فراق طال ثمانية أشهر تقريبا، فشعرت بدفئ غريب رغم برودة الجو. كأنني عدت إلى الوطن، كأنني عدت إلى أحضان أمي. فعرفت أنه إن كان هناك شيء مستحيل في حياتي فهو مسح صورة اسطنبول من قلبي. قررت أن أذهب إلى أسكدار مشيا مع الشاطئ أستعيد الذكريات وأحيي المعالم السلطانية التي حفرت لنفسها مكانا خاصا في عقلي وقلبي.
قطرات المطر تتساقط على ملابسي فتبللها ولا أبالي، فكم كنت مشتاقا إلى مطرها. سماء المدينة مغطاة بغيوم رمادية. وغلالة رقيقة من الضباب تكسو الضفة المقابلة فتضفي على المعالم العملاقة سرا غامضا. تسارعت قطرات المطر وتكاثرت، أما أنا فلم تبق نقطة واحدة في ثيابي إلا وتبللت وسرى إلى داخلها المطر وراحت جداول المياه تجري من شعري على وجهي على الأرض. لم أفكر لحظة واحدة أن أهرب من المطر المنهمر. كان بإمكاني أن أنادي سيارة أجرة فأستقلها إلى المنزل وأنجو. ولكن والحق أقول لم أفكر في ذلك أبدا. فقد كانت كل قطرة تتسرب من ملابسي إلى جسدي تؤكد لي أنني لست أحلم.. أنا أعيش واقعا حيا وأستشعر حقيقة كانت تراود أحلامي طوال الأشهر التي قضيتها بعيدا عن حبيبتي.
توقفت عن المسير بينما كان المارة يتراكضون بحثا عن ملجإ آمن يحتمون فيه من المطر. نظرت إلى الضفة المقابلة لأرى المعالم وسط هذا الجو الذي قد لا ألقاه مرة أخرى. فلاحت المآذن الست لمسجد السلطان أحمد مثل صوارخ استعدت للانطلاق. لم أر سوى المآذن وقبة المسجد الكبرى لأن البقية قد غاصت في بحر من الضباب. يا لها من صورة رائعة تؤثر في سوايدء القلب! بحثت عيناي عن قبة عظيمة أخرى تحيط بها أربع مآذن.. فبدت لي وهي تسبح في بحر الضباب كذلك. ها هي قبة مسجد أياصوفيا وقد فتح أيديه إلى السماء بالدعاء فلبت السماء دعاءه بالمطر. القبة المبللة تلمع بلون بفضي ساحر من بعيد.
يتساءلون لماذا يعشق الإنسان اسطنبول؟ لماذا يهيم الشعراء بحبها؟ لماذا يفضل الرحالة الأجانب الإقامة فيها والدفن تحت ثراها بعد موافاة الأجل؟ لماذا لا يريد القاطن فيها مغادرتها؟ ولماذا يحلم بالعودة إليها كل من يفارقها؟ مهما كان السبب فهناك ظاهرة، وهي أن الداخل إلى اسطنبول لا يخرج منها كما دخل، إنما تنطبع صورتها في روحه بشكل من الأشكال ويغادرها وكأنما ترك قطعة من قلبه وراءه.
نقلت عيناي من مسجد أياصوفيا إلى الأمام قليلا لأرى كيف تبدو قباب قصر طوب قابي تحت هذه الغلالة الضبابية الرقيقة. منائر القصر وقبابه تملأ ما بين السلطان أحمد وأياصوفيا. يا إلهي! آفاق اسطنبول في هذه اللحظات الممطرة ووسط بحر من الضباب قد غطتها المآذن الشاهقة والقباب العظيمة. إذا أراد المتسائل عن سبب هيام الناس بها أن يحصل على جواب فيكفيه أن يرى هذا المشهد فقط.
يلقاك البرج في مدخل المضيق من جانب بحر مرمره، فتصغي إلى حديثه الخفي، فيخيل إليك كأنك تسمع الهمسات التي تدور بينه وبين مجموعة الأعلام التاريخية مثل السلطان أحمد وأياصوفيا وطوب قابي والسليمانية والخليج. ها أنا أقف عاجزا عن التعبير الآن، وإخالني سأبقى عاجزا طوال رحلتي هذه في أطراف اسطنبول. وسط غشاء رقيق من الضباب ينظر إليك البرج وكأنه يريد أن يحدثك بأشياء كثيرة.
تابعت المسير فرأيتها واقفة في منتصف البحر تنتظرني لتحييني بعد غيبة كانت كالدهر في طولها. لا تزال تتمتع برشاقتها وجاذبيتها وبراءتها. ولما حاذيتها تبادلنا النظرات وابتسمت لها بشفتين مبللتين فابتستمت لي، ولوحت إلي بعلمها الذي يسبح على رأسها. تلك الأميرة الخيالية التي تسكن البرج الذي يدعى ببرج الأميرة منذ القدم والذي يعتبر أحد الرموز الخالدة لاسطنبول. ويبدو للناظر عندما يراه وسط تيارات البحر وأمواجه المضطربة كأنه ملاك أبيض يستقبل زوار المضيق الطيبين بالبسمات.
تركت الملاك الأبيض في وحدته الصامتة وتابعت المسير إلى أسكدار. فناداني قصر دولمه باخجه من الضفة المقابلة. أجهدت نفسي لأنفذ إلى شبحه الرمادي من خلال الطبقة الضبابية الكثيفة، ولكن لم أتمكن من ذلك. فتلقيت تحيته ورددت عليه بصوت عال، وما أظنه سمعني لأن ضوضاء قطرات المطر الغزيرة محته دون أن يتجاوز عدة أمتار. سلمت على مسجد شمسي باشا ومكتبته القديمة. مسجد صغير جدا أنشأه المعماري العظيم سنان، ومن ثم يتمتع بفن رائع. ومضيت حتى وصلت إلى ميدان أسكدار. لا أريد أن أقص شيئا عن هذا الميدان التاريخي الذي شهد من الأيام الجسام، لأنني تارك ذلك إلى حديث آخر طويل.
وقفت في منتصف الميدان… نظرت إلى اليمين، إلى المسجد الجديد أو مسجد والدة سلطان فرأيته يبتسم لي في مهابة. ونظرت إلى اليسار فابتهج مسجد ميهريماه سلطان لرؤيتي، أو هكذا بدا لي من شدة فرحتي. وأخيرا وقبل أن أستقل سيارة تحملني إلى منزلي المتواضع أحببت أن أطل من المضيق لأرى الجسر. أوسعت الخطى إلى المرفأ وحدقت في الأفق ولكن ارتطمت نظراتي بستار كثيف من الضباب فلم أر الجسر الذي يربط بين قارتي أسيا وأوروبا.
شعرت بشيء من الاكتئاب… الأمر الذي يصيب الإنسان عندما يؤمل نفسه بأنه سيلقى بعد قليل صديقا فارقه منذ أمد بعيد. لا بأس، فالوقت أمامي متسع، وأنا بعد اليوم مع الأحباب. أشرت إلى سيارة فتوقفت عند الرصيف. فتحت الباب والمطر ينهمر من جميع أطرافي. نظر السائق إلي وعرف من هيأتي أنني قادم من سفر بعيد. فقال بصوت ممتلئ بالمرح أهلا بك في اسطنبول…
من موقع مجلة حراء