عمر نورالدين
دخلت أزمة الطائرة الروسية التي أسقطتها تركيا على الحدود السورية أسبوعها الثاني.. ظلت الأزمة هي الحدث الساخن لأن تفاعلاته لم تتوقف حتى الآن وتواصل تصاعدها .. هذه التفاعلات التي هي في حقيتها هزات ارتدادية لزلزال إسقاط الطائرة لن تقل حدتها تدريجيا كما يحدث في الزلازل العادية وإنما ما يحدث الآن وما سيحدث لاحقا هو العكس لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينظر إلى إسقاط الطائرة على أنها خيانة وطعنة في الظهر في وقت كانت تشهد العلاقات التركية الروسية تقاربا لم تشهده ربما في تاريخها.
لم تتوقع تركيا، غالبا، عندما فكرت في إسقاط الطائرة أن يأتي الرد الروسي بالسرعة والقوة التي جاء بها، ربما يكون اعتمادا على موقف الغرب وحلف شمال الأطلسي (ناتو) وأمريكا، الذين ضاقوا ذرعا ببوتين الذي لم يعبأ بأي عقوبات فرضت على روسيا نتيجة تدخلها في أوكرانيا وواصل طريقه ليصل إلى سوريا بتحرك بدا مفاجئا ومحرجا للغرب بأكمله ليغير الكثير من أوراق اللعبة والحقائق على الأرض في سوريا ويضع التحالف الغربي في موقف محرج لأنه كشف أن كل ما كان يجري الحديث عنه بشأن الخسائر في صفوف تنظيم داعش الإرهابي كان يحوي الكثير من المبالغات و” الشو الإعلامي” كطبيعة الحروب الأمريكية.
بوتين لن يتوقف لأنه يعتبر أن ما أقدمت عليه تركيا هو إهانة له كزعيم يصنف على أنه الأقوى في العالم ولتاريخ القيصرية الروسية وللتاريخ الطويل في علاقات الندية بينها وبين الدولة العثمانية في الماضي واحتفاظ العقل الجمعي لشعبي البلدين بملامح هذا العداء التاريخي رغم التقارب في المصالح والاعتماد المتبادل في مجالي التجارة والطاقة وغيرهما.
كان إسقاط الطائرة من جانب تركيا عملا مفاجئا ومذهلا لروسيا، بلاشك، على الرغم من أنه في عرف القانون الدولي لا يعد خطأ على الإطلاق من جانب تركيا التي انتهك مجالها الجوي حتى ولو كان لسبع عشرة ثانية فقط، لأن الدفء في العلاقات والتبادل المكثف للزيارات بين أردوغان وبوتين كان يوحي بأن تركيا قد لا تتصرف بهذا الشكل حتى رغم اعتراضها من البداية على دخول روسيا بهذا الشكل في المشهد السوري.
ولكل هذه الاعتبارات قال بوتين إن تركيا ستندم “أكثر من مرة” على إسقاط طائرتنا وأن موسكو لن تتجاهل مساعدة أنقرة “لإرهابيين”.
ووجه بوتين رسالة للغرب قائلا إن على الدول “ألا تطبق معايير مزدوجة مع الإرهاب” أو تستخدم جماعات إرهابية لتحقيق أهدافها.
لقد تطاير شرر إسقاط الطائرة الروسية ليضرب مصالح تركيا في الكثير من المجالات وكالعادة تضررت شركات ومصالح وأفراد من هذا الفعل .. وسيتواصل الضرر على ما يبدو ليطال تركيا كدولة بعد أن دخل أردوغان في تحد مع بوتين حول ادعاءات دعم تركيا لتنظيم داعش وتربح أردوغان وعائلته ورجال السلطة في تركيا من نفط داعش في سوريا والعراق وضرب روسيا لهذه المصالح وعرقلة خطوط نقل هذا النفط ليتقلص حجم المكاسب منه إلى النصف.
وكان أردوغان أعلن التحدي مراهنا على منصبه عندما قال إنه سيتقدم باستقالته إذا قدمت روسيا دليلا على مزاعم تعامل تركيا مع داعش في شراء وتسويق النفط، لتسارع وزارة الدفاع الروسية بعرض خرائط ومقاطع فيديو حول نقل نفط داعش إلى تركيا .. لكن هل يستقيل أردوغان؟ .. سيتوقف ذلك على مدى اعترافه بأن ما تقدمه روسيا من أدلة موثوق به أم لا من وجهة نظره هو فقط.
ليس من الواضح حتى الآن أن إسقاط الطائرة الروسية سيكون سببا للحرب بين روسيا وتركيا، لكنه قد يكون كذلك فيما بعد، وقد تستمر المناوشات في الجو بالتوازي مع الإجراءات الروسية العقابية التي تنعكس سلبا على الشركات والأفراد فيما تفيد من يحكمون تركيا ويريدون مزيدا من التلميع لصورتهم أمام الرأي العام، مع أنهم يحاولون على الجانب الآخر تهدئة بوتين بما يشبه الاعتذار عن طريق إبداء الأسف أو الزعم بأنهم لو كانوا علموا بأن الطائرة روسية لتصرفوا على نحو آخر.
والحقيقة أن هذا المنطق نفسه هو منطق مغلوط، لأن اعتبارات الأمن القومي للدول وسيادتها وكرامتها ليست أمرا انتقائيا يطبق مع هذا ولا يطبق مع ذاك، أى أن الأمر إذا كان يتعلق بالأمن والسيادة فإنه لا يحتمل التصرف بطريقتين وإنما يتم تطويعة أحيانا حسب درجة الصداقة أو العداء.
القواعد تقول إنه كان لابد من إسقاط الطائرة مهما كانت جنسيتها.. بلا تفكير وبلا حسابات كالتي اتبعت من قبل مع إسرائيل عندما اعتدت على سفينة ” مافي مرمرة” وقتلت عن عمد 9 مواطنين أتراك كانوا على ظهرها.. حيث جرى التغاضي عن محاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة والتراخي حتى الآن في طلب إحضارهم عن طريق الانتربول الدولي بسبب سياسة المصالح، لكن أردوغان لا يزال يكرر أننا آسفون لإسقاط الطائرة ولو كنا عرفنا جنسيتها منذ البداية لكان تصرفنا مختلفا أو ربما كنا أطلنا فترة التحذير على سبيل المثال.. فماذا لو كانت الطائرة بريطانية أو فرنسية أو يونانية أو إسرائيلية.. ولن نقول بالطبع أمريكية لاعتبارات التحالف والتعاون العسكري بين البلدين من خلال قاعدة انجيرليك جنوب تركيا.
إن شظايا الطائرة الروسية التي تواصل تطايرها من موسكو حتى الآن لن تتوقف عند الحرب الكلامية بين بوتين وأردوغان، والتي تدور بين غرور شخصين يتشابهان في الكثير من السمات الشخصية ويريد كل منهما الآن كسر أنف الآخر، لكنها حتما ستنال من مصداقية تركيا وموقفها من الإرهاب ومن المتشددين في سوريا لتكرس من عزلتها وقطيعتها مع جيرانها.. والدليل على ذلك هو حالة الانقسام سواء داخل تركيا أو خارجها في تقييم خطوة إسقاط الطائرة ودوافعها.. وحالة الوقوف على أطراف الأصابع انتظارا لما ستسفر عنه من نتائج في ظل القرارات والخطوات المتسارعة من جانب موسكو ومحاولات الامتصاص والتهدئة والتوجه إلى الخيار الدبلوماسي من جانب أنقرة.