لو رجعنا إلى تاريخ المسلمين، وسلّطنا الأضواء على أولئك الّذين نوّروا قلوب المسلمين قبل أبنيتهم لوجدنا أنّ أكثرهم ابتلوا بأشدّ أنواع البلاء وهذا يعني أنّ سالك هذا الطّريق تأتي عليه الاختبارات والامتحانات مع كلّ خطوة يخطوها، وتكبر المِحَن حينما يأتي البهتان من أناس يراهم النّاس متديّنين وقادة إعادة حكم الإسلام، إذ يحجبون بإظهار تديّنهم المزيّف أعين النّاس، ويصفق معهم العامّة، ويشتمون المصلحين معًا، وهذا يا للأسف ما نراه في حياة أكثر المصلحين فقد عُذِّبُوا وشُتِموا وأُهِينُوا، ولم يقدّر المسلمون جهودهم إلاّ بعد مدّة طويلة من وفاتهم.
فهذا أبو حنيفة رحمه الله الإمام الأعظم رأس المذهب الحنفي الفقهي، ربّما يعتقد البعض أنّه عاش في رفاه وحياة مليئة بالاطمئنان، ومن حقّه أن يتصّور ذلك؛ إذ هذا ما يليق بالخلافة العبّاسية الّتي ادّعت الحكم الإسلامي الرّشيد، لكنّ الخليفة أبا جعفر المنصور بدل إكرام هذا العالم الجليل كتب إلى عيسى بن موسى وهو وال على الكوفة يأمره أن يحمل أبا حنيفة إلى بغداد، قال أبو نعيم: فغدوت أريد أبا حنيفة، فلقيته راكبا يريد وداع عيسى وقد كاد وجهه يسود خوفًا فقدم إلى بغداد، ولمّا حضر بين يدي المنصور دعا له بسويق وهو طعامٌ يُتَّخَذ من مدقوق الحنطةِ والشعير، وأمره بشربة فامتنع، فقال: لتشربنه فامتنع، فأكرهه حتّى شربه، ثمّ قام مبادرًا، فقال له أبو جعفر: إلى أين؟، قال: إلى حيث بعثت بي، فمضى به إلى السّجن، سقى شربة، فمات منها في السّجن وهو ابن سبعين سنة.
وتنطبق الحالة على حياة الأستاذ بديع الزّمان النّورسي، الّذي عانى قرابة ثلاثين سنة في السّجن والمنفى، وحظي هو وطلبته بأنواع المآسي، وكان نصيب رسائله المنع والحرق، وقد قيل في حقّه ما لم يخطر على بال أحد، واتّهم بالإرهاب وتخريب البلاد وتأسيس منظّمة سرّية، والمخابرات، وبقيت حاله هكذا إلى وفاته، إلاّ نادرًا ما استنشق قليلاً من هواء الحريّة، ثمّ عاد الأمر إلى بدايته.
إن هذه المآسي الّتي وجدت في ماضي أمّتنا باقية في حاضرنا أيضًا، وترجع إلى فقدان الإخلاص واتّباع الأهواء ومغبّة السّلطة والاغترار بثمن بخس من الدّنيا، وهذا جزء من ابتلاء الأمّة؛ إذ هؤلاء المصلحون صمدوا واستقاموا على الطّريق المستقيم، وثبتوا كالجبال، وحملوا آلام الإنسانيّة في صدرورهم، وجعلوا من هذا الظّلم بحقّهم بابًا آخر نحو الإخلاص والتّقرّب إلى الله تعالى، كما يقول بديع الزّمان: (إنّني أحمد الله تعالى حمداً لا أحصيه، إذ حوّل أنواع الظلم والمكاره التي جابهني بها أهل الدنيا إلى أنواع من الفضل والرحمة). لكن هل يخرج النّاس من هذا الامتحان فائزين أم يقعون في الشّرك ويخسرون المباراة لصالح أهل الفساد.
والأمر نفسه اليوم على الأستاذ فتح الله كولن، الّذي نذر حياته لخدمة الإنسانيّة، وتُمطَر عليه الاتّهامات الملفّقة دون إثبات واحد منها، لكنّه صامد وثابت على دينه وخدمته للإنسانيّة، وأنا على يقين من أنّ يومًا يأتي على أهل تركيا يندمون على كلّ ما صدر منهم في حقّه سلبًا، ويجعلون من نصائحه وكلماته دراسات علميّة، ويبنون عليها مشاريع عالميّة، كما فُعِل بأبي حنيفة والنّورسي.
والعجب اتّهامه باتّهاماتٍ لا يصدّقها من له أدنى معرفة بسيرته، أو تبحّر ولو قليلا في بحار فكره من خلال الاستماع إلى محاضراته أو قراءة كتبه، ولم أجد شيئًا مخزيًا ومشينًا مثل اتّهامه بالإرهاب، إذ لم يتردّد كولن طيلة حياته في نشر الإسلام الحقيقي الدّاعي إلى المحبّة والتّعايش السّلمي وتوعية الشّباب برحمة الرّسول؛ لذا لم يتردّد قطّ في إدانة الإرهاب وتنبيه العالم من خطورته وما تؤول إليه أعمال الإرهابيّين في حين كان كثير من العلماء والزّعماء متردّدين في ذلك، ولم يصرّحوا بذلك إلاّ بعد وصول الإرهاب إلى قمّته وتعثّرهم في مكافحته، وأنا أخجل من قراءة كلمات مَنْ يصفون هذا العالم بالإرهاب، وهذا الاتّهام يبقى وصمة عار على جبينهم إن لم يتراجعوا عمّا أقدموا عليه، كما ندم كثير ممّن طعنوا في علمائنا القدامى، فطوبى لمن كفّ يده ولسانه عن إيذاء المصلحين.
بقلم: جعفر گوانی
من إقليم كردستان