د. عبد الله بن نافع الدعجاني
بعيدًا عن زوايا الرؤية المغرضة، ودهاليز القراءة الواهمة لأدبيات الخدمة، وتوخيًا للعدالة في الحكم، والنصفة في النقد، يمكنني بكل اطمئنان القول: بأن حركة “الخدمة” ذات مشروع اصلاحي يعتمد على الرؤية الإسلامية العامة، وينطلق من القيم الشرعية الإنسانية، بمرجعية صوفية سلوكية متجافية عن بلايا تصورات التصوف الفلسفي الغالي، ومتباعدة عن خرافات التصوف الطرقي، ولأستاذ الحركة نقد بارز لهذين الاتجاهين.
ومع سمو رسالتها الإصلاحية لم تكن حركة فلسفية نظرية ميتة، بل كانت حركة مفعمة بالحياة الفاعلة في التربية والتعليم والدعوة، فلها جهودها الجبارة في اصلاح المجتمعات لا سيما المجتمع التركي، ولها دورها البارز في التجديد الإصلاحي “الديموغرافي” لتصورات وسلوك مجتمعها التركي، وإعادته إلى جذوره وحضارته الإسلامية بعد صراع مرير مع العلمانية المتوحشة الاستئصالية.
نعم. هي حركة اصلاحية إسلامية، لها ما لها وعليها ما عليها، كباقي الحركات والمشاريع الإسلامية، تجمع بين خطأ الاجتهاد وصوابيّته، وبين صحة التصورات وغلطها، ولا يسلم من ذلك مشروع بشري قائم على مركب النقص.
مزالق منهجية في التقويم:
الاستغراق في اللّحظة الآنية، والانهماك في تفاصيل أحداثها، في مقام تقويم الحركات، من العثرات المنهجية التي تورثنا غبشًا في التصورات، وتقودنا إلى تخرُّصات و أوهام في الأحكام.
ومؤدَّى ذلك الاستغراق أن يحجب عنا السياق الحركات التاريخي وسياقها الحضاري الفكري، ومآل هذا الحجاب الكثيف قصورٌ في الرؤية، وظلمٌ في الأحكام على الطوائف والحركات والمدارس.
ففي لحظة الحكم على مشروع “الخدمة” يحضر سياقها التاريخي المبرهن على نشأتها الطبيعية من رحم المجتمع التركي، والمؤكد على جذورها الإصلاحية الممتدة إلى فكر النورسي الإصلاحي، فعلى أرض تلك البلاد الإسلامية شيَّدت أحلامها ومشاريعها الإصلاحية، بسعة رؤية، وانفتاح أفق، وإبداع في مجالي: التربية والتعليم، وأما سياقها الحضاري فيُبرز لنا هوية مشروعها الإصلاحي: التربوي والتعليمي، المتناقض مع المشاريع العلمانية، يسارية كانت أم قومية، التي كانت لها الهيمنة الحضارية على ذلك البلد الإسلامي آنذاك.
سأظل مستحضرًا تلك السياقات في حديثي عن “الخدمة” ومشروعها، لأنني أدرك أن ميدان المعركة الفكري والحضاري في تركيا يدور على قطبين أساسيين: المشروع الإسلامي على تنوعه، والمشروع العلماني بأطيافه، وتلك رؤية واقعية متزنة فيما أرى.
أما من يغيّب تلك السياقات في حكمه على مشروع “الخدمة” فإنه واقع لا محالة في وهْم التصورات و جور الأحكام، فمن تلك الأوهام المسيطرة على بعضنا، توهم صورة الصراع الحضاري على غير حقيقته، ونقله من المقابلة بين مشروع “الخدمة” الإسلامي من جهة، وبين المشروع العلماني من جهة أخرى، إلى المقابلة بين مشروع “الخدمة” من جهة، وبين المشروع السلفي منهجًا وعقيدة من جهة أخرى، مما يستدعي مفاهيم “السلفية” و”الصوفية” وجعلها حكما فاصلا في المسألة، وتلك رؤية قاصرة ضيقة في فهم الصراع والمعركة!.
وعقلاء “السلفية” لا يغفلون تلك الرؤية الواقعية الحكيمة في بحث الطوائف والجماعات، مارسها بعض منظريها، كـ”ابن تيمية” رحمه الله، فقد كانت “الأشاعرة” في نظره ـ مع خلافه لهم في الأصول ـ هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم، والرافضة أو المعتزلة ـ في رأيه ـ لهم جهودهم في دعوة الكفار إلى الإسلام.
جرائر التصنيف:
إن مآل إغفال السياق التاريخي والسياق الحضاري الفكري، في قراءتنا لحركة “الخدمة” أدَّى ببعضنا إلى اختلال رؤيته، ودفع آخرين إلى ثلْب مشروع “الخدمة” جملة وتفصيلا، تأثرًا بظروف اللّحظة الراهنة، وتتمحور تلك المثالب على دعويين: دعوى عمالتها، ودعوى صوفيّتها، وعلى هاتين الدعويين تدور دعاوى مناوئيها:
الأولى: دعوى عمالتها وتآمرها على الدولة التركية، وفي هذا الإطار يتنوع تصنيفها حسب كل ذوق، فما بين وصفها بالعمالة الاستخباراتية للدول الغربية، وما بين تصنيفها من الحركات الباطنية الهدامة، وما بين لمزها بالتصهين والماسونية … إلى آخر هذا الهراء.
ويغفل أو يتغافل مقترفو كل تلك الأوصاف المركبة تركيبًا مغرضًا لأسباب المنافسة والمشاقة، عن السياق التاريخي لحركة “الخدمة”، الذي امتد لأكثر من أربعة عقود على أقل تقدير، عاشتها الحركة في حضن المجتمع التركي بكل أطيافه، تحت شمسه، وفوق أرضه، لم تخرج من سراديبه، ولم تعش في ظلامه وعلى هوامشه، حتى يُشكَّك في توجُّهها ووطنيتها ومرجعيتها الإسلامية.
بالأمس القريب لم يكن يجرؤ أحد على تصنيفها بتلك التصنيفات الجائرة، حتى وقع الخلاف السياسي بينها وبين الرئيس التركي “أردوغان”، فقد كانت زمن الوفاق حركة إسلامية رائدة في خدمة المجتمع، يطلب الزعماء الساسة الإسلاميون وُدَّها ومعاضدتها ضد الأحزاب العلمانية، ولكن فجأة وبقدرة قادر أضحت حركةً باطنيةً بعد أن كانت سنية، ومشروعا تآمريَّا بعد أن كان وطنيا إسلاميا آزر حزب العدالة والتنمية سياسيًا!!.
ربما يمكنني تفهم طبيعة المناكفات السياسية بين “الأخوة الأعداء”، فالمنطق السياسي يقترف أشد من تلك العظائم، ولكن ما لا أستطيع فهمه تلقُّف “من لا ناقة له فيها ولا جمل” تلك الشائعات السياسية دون تحرير ولا روية، والهرولة غير الواعية إلى اقتحام الخصومة السياسية بين اتجاهين إسلاميين تركيين على قضايا محلية وملفات داخلية، ومن ثم الاصطفاف غير الناضج مع أحد الطرفين.
ومع اعتقادي بأن لكلا المشروعين ـ المشروع السياسي بقيادة الرئيس “أردوغان”، والمشروع الإصلاحي التربوي بقيادة الأستاذ “فتح الله كولن” ـ فضائله على المجتمع التركي، وإسهاماته الحضارية في إعادة صياغة المجتمع التركي بربطه بجذوره التاريخية والحضارية الإسلامية، إلا أنه يجب الحذر من تأثيرات خلافهما السياسي على أحكامنا وتصوراتنا، وبإمكاننا رؤية العلاقة بينهما من الخارج والنأي عن رؤيتنا لعلاقتهما من الداخل حتى نتحرر من ضغوطات الطرفين.
ما الذي يحملنا على استعارة عيون غير أعيننا لكي نرى مشروع الخدمة وفكر أستاذها؟ وما الذي يحوجنا إلى تتبع مقالات الصحفيين المناوئين لها، أو التقارير الغربية لتقويمها؟ بينما كُتُب أستاذهم منشورة، ومؤسساتهم التعليمية والتربوية والاجتماعية والإعلامية مفتوحة ! ليس عندي تفسير آخر لهذا العمل الشائن إلا أنه استخفاف بالعلم والفكر وابتذال لأمانة الكلمة ومسؤوليتها! إنه “السقوط المنهجي” بعينه.
وبسبب ذلك التوهان المنهجي في تقويم “الخدمة” تظهر لنا ضحالة وافتقار موارد الطاعنين في مشروع “الخدمة” إلا من الموارد والمصادر الأجنبية عن أدبيات “الخدمة”، سواء أكانت موارد خصومهم السياسيين والفكريين، أو التقارير الغربية، كتقرير مؤسسة راند الأمريكية، فقد كان مستندا لبعض من يجهل الحركة في الطعن بها.
لكن إذا كان هذا التقرير يعبر عن الرؤية الأمريكية تجاه “الخدمة” فما علاقته برؤيتنا نحن لها؟! و إذا كان لهذا التقرير معيارية وأثر في أحكامنا فما موقفنا من مدحه لحزب “العدالة والتنمية” التركي، واصفًا إياه بأنه ذو منهج معتدل وموجه من الاتحاد الأوربي؟! فهل يعقل أن يكون ذلك التقرير مرجعًا في التقويم لحركة بثَّت أدبياتها، وأظهرت رؤيتها و أعلنت فلسفتها على الملأ؟!.
الثانية: دعوى صوفيتها، واتخاذ ذلك ثلبًا في مرجعيتها، وتلك دعوى لم تراعِ السياق الحضاري الفكري للحركة، الذي حدَّد أهدافها ورؤيتها في مقابل المشاريع العلمانية المتحكّمة آنذاك في المؤسسات الاجتماعية والتربوية والتعلمية في تركيا.
فالمعادلة ـ في ذلك السياق ـ تتمثل في تناقض المشروع الإسلامي مع المشروع العلماني، ففي أي محور يقف العقل المسلم سلفيا كان أم غير سلفي؟ وهل عدم الموافقة الكلية مع “الخدمة” في الاعتقاد والمنهج يسوغ قطع العلائق مع مشروعها الاسلامي المناهض للمشروع الاجتماعي العلماني؟! وإذا كانت المرجعية الصوفية غير الغالية موجبة لثلبها ومسوغة للتحذير منها، فكيف نفسر ثناء بعض مناوئيها على “أردوغان” وحزبه؟! هل كان “أردغان” سلفيًا ونحن لم نشعر؟ ليس هناك مشروع إسلامي قائم في “تركيا” إلا ويتكئ على مرجعية صوفية، وذلك إرث تاريخي طويل.
مع أنني أؤكد على اعتدال المرجعية الصوفية للحركة في الجملة مع ملاحظات شرعية لا تخفى، ولكن ليست بتلك المرجعية الغالية ولا بتلك المرجعية الطرقية الخرافية، وقد أشرت سابقا إلى أن لأستاذ الحركة نقدًا بارزًا لتلك المرجعيات الصوفية.
(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).