بقلم: أ. د. عبد المجيد بوشبكة
لعل رجلاً جبلاً مثل الشيخ سعيد النورسي لا يجاريه أحد في زمانه ومكانه علمًا وعملاً حسب شهادة المتخصصين. والدارس لفكر وسيرة هذا العالم الجليل لاشك أنه يتوقف طويلاً عند مرحلتين مفصليتين في حياته. مرحلة سعيد القديم ومرحلة سعيد الجديد. حينها سيعلم أن العمل السياسي وهمومه ومثالبه هو العامل الأول وراء هذا التقسيم وهو المسؤول المباشر عن تغيير الشيخ النورسي لتوجهه العام من الانشغال بالسياسة والانغماس في عالمها إلى الفرار منها والتحذير من مصايدها.
ولا غرو أن يطرح أي عاقل تساؤلات مشروعة حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الموقف المثير، لرجل عالم موسوعي خبر دروب الحياة وعايش أدق مراحل الانتقال الذي عاشته الدولة التركية الحديثة؛ رجل من عيار الشيخ سعيد النورسي.
طبيعي أن علو همة هذا العالم الجليل منعته من التفرج على واقع أمة كبيرة يصاغ أمام عينيه، دون أن يكون واحدًا من صناع قراراته. ومعلوم أن الأنظمة الدولية اليوم على مختلف تشكلاتها من شيوعية واشتراكية إلى لبرالية ورأسمالية إلى آخر ما تفتق عنها من ديمقراطية، لاشك أنها جميعًا تملك من وسائل الاثارة ومن أسباب الدعاية وحسب كل جيل، ما يجعل الإنسان المتحرق والمكتوي بهموم الناس والمؤمن بغد أفضل، يهرول عن حسن نية ومقدمًا على الانخراط في هياكل هذه الأنظمة من أجل تلمس طريق الاصلاح والعمل على تنفيس كرب المكروبين والدفع بكل ما من شأنه إصلاح الأوضاع.
نعم! وهل يشك أحد ممن يعرفون الشيخ النورسي في حسن طويته وأنه سيكون من السباقين للمساهمة في هذه الأعمال والانخراط في هذه الأنظمة. بلى كذلك كان وقد أبلى الرجل بلاء حسنًا والتف حوله من الجماهير من آمنوا به وصدقوه. لكن الرياح جرت بما لا تشتهيه سفينة الإصلاح التي ركبها الشيخ النورسي، حيث دخل في عالم من التناقضات التي يعج بها ميدان السياسة وبدأت مطارق الظلم والتعسف والتهم تنهال عليه من كل جهة. وقد سجل ذلك بنفسه رحمه الله في ما أثر عنه من مكتوبات ومذكرات طارت شهرتها في الآفاق. و يمكن تلخيص هذه المطارق في:
- مطرقة الدول المستبدة.
- مطرقة الظلم المغروز في الفطرة.
- مطرقة غياب العدالة وعدم المساواة.
- مطرقة العلوم والثقافات الوافدة.
و تحت وطأة هذه المطارق نفذ صبره رحمه الله وقر إعتزال عالم السياسة والكفر بالمنهج السياسي في الإصلاح ومحاربة الفساد. فقال رحمه الله: “إن الإنسان الذي يخوض غمار هذه الحرب الطاحنة يمثل أصدق تمثيل الآية الكريمة ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾(الأحزاب:72) لذا لايجوز النظر إلى المظالم المحيرة فضلاً عن موالاة تلك التيارات وتتبع أخبارها والاستماع إلى دعاياتهم الكاذبة الخدّاعة ومشاهدة معاركها بأسىً وحزن. لأن الرضى بالظلم ظلم واذا ما مال إليه يكون ظالمــًا، وإذا ما ركن إليه ينال زجر الآية الكريمة ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾(هود:113)”.
لقد أمن الشيخ النورسي بأن السياسة التي سادت البلاد سياسة ظالمة، لأنها رضعت من ثدي الثقافة الغربية المبنية على القوة والمنتجة للصراع، بدل اجتماع القوم على الثقافة الملية التي تنطلق من الرحمة وتنتج التعاون ليتحقق الإصلاح. فقال رحمه الله في أحد كلماته: (القوة ركيزة الحياة؟ والصراع “دستورها؟ فالمدنية الحاضرة تؤمن بفلسفتها: إن ركيزة الحياة الاجتماعية البشرية هي “القوة” وهي تستهدف “المنفعة” في كل شئ. وتتخذ “الصراع” دستورًا للحياة. وتلتزم بالعنصرية والقومية السلبية رابطة للجماعات. وغايتها هي “لهوٌ عابث” لإشباع رغبات الأهواء وميول النفس التي من شأنها تزييد جموح النفس وإثارة الهوى. ومن المعلوم أن شأن “القوة”هو” وشأن “المنفعة” هو “التزاحم” إذ هي لا تفي بحاجات الجميع وتلبية رغباتهم. وشأن “الصراع” هو “التصادم” وشأن “العنصرية” هو “التجاوز” حيث تكبر بابتلاع غيرها).
كيف يمكن لرجل تلك صفاته أن يستمر في مجال هذه مواصفاته؟
لاشك أن التعويل على القوة في مجال الإصلاح منهج لا يستقيم ورسالة الإصلاح؛ وأما استعمال هذه القوة في المجال السياسي فهذه ثالثة الأثافي. لأن التزاحم حول المنافع، وهي ميزة العمل السياسي في واقع الدولة الحديثة، لاشك سيؤدي إلى الصراع وكل ذلك يوقع في تجاوزات وهضم للحقوق لايعلم حجمه إلا الله. نعم، وأن النجاح الظاهر والمرحلي الذي يحققه السياسي سيولد لدى صاحبه غرورًا وأنانية يجعلانه أكثر شراهة وضعفًا أمام كل الشهوات البهيمية. ولا ينجو من الانغماس في هذه الأوحال إلا العقلاء وقليل ماهم. ولأن الشيخ النورسي إكتوى بنار هذه التجاوزات وذاق من علقم هذه السياسات فقد عبر عن السياسات التي هذه صفاتها تعبيرًا بليغًا حيث قال في إحدى كلماته العميقة: (وهكذا نبتت شجرة زقوم على قمة هذا الوجه من “أنا” غطت بضلالها نصف البشرية وحادت بهم عن سواء السبيل. أما الثمرات التي قدمتها تلك الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، إلى أنظار البشر فهي الاصنام والآلهة في غصن القوة البهيمية الشهوية؛ إذ الفلسفة تحبذ أصلاً القوة، وتتخذها اساسًا وقاعدة مقررة لنهجها، حتى إن مبدأ “الحكم للغالب” دستور من دساتيرها، وتأخذ بمبدأ “الحق في القوة” فاعجبت ضمنًا بالظلم والعدوان، وحثت الطغاة والظلمة والجبابرة العتاة حتى ساقتهم إلى دعوى الألوهية).
– لكل ما سلف يمكن طرح عدة تساؤلات:
– هل ترك الشيخ النورسي السياسة اختيارًا أم اضطرارًا؟
– لماذا تكالبت عليه المطارق من كل جانب؟
– ما موقفه من السياسة؟
– هل استعاذة الشيخ النورسي من الشيطان والسياسة مبدأ؟ أم موقف أملته ظروف معينة؟
– وما موقف تلاميذه وإخوانه من بعده من السياسة وأهلها؟
(يتبع)
من موقع مجلة حراء