كولن: الصبر على المحن مثل شجرةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء
لفت الأستاذ محمد فتح الله كولن في درس ألقاه هذا الأسبوع إلى أن هناك نوعاً آخر من الصبر وهو الصبر بالعضّ على النواجذ على “الدوران البطئ الجنوني لعجلة الزمن” في الأمور والأعمال التي يتوقف تحقيقها على أجلٍ مسمى، مشيراً بذلك إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.
وفيما يلي لمحات من درس الأستاذ فتح الله كولن:
- الصبر هو الصمود والتحمّل بالعضّ على النواجذ حتى الموت أثناء أداء الواجبات التي كلّفنا الله تعالى بها في الحياة الدنيا، والوقوف رافع الهامة دون تزلزل أو تزعزع أمام شتى أنواع البلاء والمصائب مثل أشجار واقفة في شموخ يبلغ طولها نحو مائة أو مائتين متر وضربت جذورها في الأعماق بنحو مائة أو مائتين متر أيضًا.
- إن عدم الاستسلام لفلسفة التسكّع واللامبالاة في فترةٍ غدت فيها الذنوب والمعاصي شلالات متدفقة انجرف معها كثير من الناس مثل جذوع شجرة منجرفة أمام الفيضانات، وعدم الوقوع أسيراً للأحاسيس والنزعات البشرية، وتجنّب الانسياق وراء غريزة الشهوات النفسيّة، والعيش في الحياة الدنيا وكأن أعين الله – عزّ وجلّ – تراقبنا في كل مكان وزمان… كل ذلك من أنواع الصبر.
الأمور التي يجب أن نصبر عليها؟
- أجل، فالصبر أنواع متعددة تبعًا للأمور والمسائل التي ينبغي الصبر عليها. إلا أن أكثر أنواع الصبر المتعارف عليها هي؛ الصبر على مواصلة العبادات والمواظبة عليها، والصبر عند تجنب ارتكاب الذنوب والآثام، وكذلك الصبر على المصائب.
- ومن بين أنواع الصبر أيضًا؛ عدم المبادرة إلى تغيير فكري وعاطفي إزاء جماليات الدنيا الخلابة التي تبهر الأنظار وتسحرها، وعدم التعرّض لانحرافات فكريّة، والاستمرار في السير على الخطّ المستقيم للقرآن الكريم.
- وإضافة إلى ما تقدم فهناك نوع آخر من الصبر وهو “الصبر على الدوران البطئ الجنوني لعجلة الزمن” في الأعمال التي تتطلب أجلاً معيناً، ويتوقف تحقيقها على فترة زمنية محددة.
الصبر على الدوران البطئ الجنوني لعجلة الزمن
- ثمة مسائل وأمور ارتبطت نتيجتها المرجوة بموعد محدد من قِبَل القدر الإلهي وحُجب عنا ميقات تحققها. فقد تسعون جاهدين لتحقيق مشروع ما لكنه يستغرق وقتًا طويلاً. ذلك أن طول الزمن وقصره يتناسب إلى حد ما مع قوة الناس وقدراتهم، أي أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدرات مثل جهاز المناعة الروحية والإيمان بالله ومعرفة الله والذوق الروحانيّ والعشق والاشتياق. ولذلك يجب أن يتحلّى الإنسان بالصبر ويعضّ على نواجذه على المسائل والأمور التي تتطلب أجلاً مسمّىً.
- كان مفخرة الإنسانيّة سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – مهندسًا ملكوتيًّا لم يُرَ له مثيل أو شبيه في الكون. إنه كان أبدع المهندسين الربانيين الذين أرسلهم الله تعالى ليصمّم ويبني عالم مشاعرنا وأفكارنا، وعلاقاتنا بالمولى عزّ وجلّ، وكل أمورنا المتعلقة بالحياة الأبديّة، وحياتنا القلبيّة. واستغرق تشكيل نموذج جديد من الإنسانية ونضوج مجتمع سلمي 23 عامًا حتى على يد أفضل الخلق – عليه أكمل التحايا – مع جماعة الصحابة الكرام المنتخبين خصيصاً؛ معجزة القرآن الكريم. وإذا كان ميلاد مثل هذا المجتمع استغرق 23 عامًا، فيجب علينا إذًا أن ننظر إلى قضية “البعث بعد الموت” لأمتنا من هذه الزاوية، وأن لا نتسرع ونستعجل في هذا الموضوع أبداً. وذلك أيضًا يتطلب صبرًا من نوع آخر.
الصبر على لواعج شوق الوصال لحين بلوغ أمر “ارْجِعِي”
- وفوق كل هذه الأنواع من الصبر ثمة صبر آخر باعث على الجنون أيضاً. وهو صبر أحباب الله تعالى الذين ينتظرون في اشتياق حتى يأتيهم اليقين ويقضوا نحبهم، مع أنهم يرغبون في الحياة الآخرة على أحر من الجمر. أجل، إن تحمّل أحباب الله الذين يتحرقون شوقًا للحياة الأخرى في شهيقهم وزفيرهم باستمرار مشقات الحياة الدنيا إلى أن يتموا مهامهم التي بعثوا من أجلها، وكذلك إخماد مشاعر ورغبات اللقاء التي تخالج شِعاب أفئدتهم بمشاعر المسؤولية، إنما هو صبر خصّ به الله عباده الأوفياء. وهذا النوع من الصبر الخاص بالمقرّبين والذي من الممكن أن نطلق عليه أيضًا “الصبر على شوق الوصال” هو أن يفضّل أحبابُ الله خدمةَ الدين على أنفسهم، ويختاروا البقاء في هذه الحياة الدنيا ويمضوا في أداء واجباتهم، مع أنهم يرغبون من صميم قلوبهم في رؤية جمال الله؛ وأن يرضوْا بقدره وتقديره ويريدوا رضاءه بدلاً عن الموت والوفاة، ويتحمّلوا الدنيا لمزيد من الوقت من أجل رسالته السامية، رغم أنهم يعيشون كل لحظاتهم وهم مفعمون بفكرةِ ومشاعرِ “متى يا إلهي، متى الوصال؟”
- لا ريب في أن مفخرة الإنسانية سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات هو من يتربع على قمّة الصبر على الوصال واللقاء الألهي. وقد لفّ رسول الله في آخر أيامه في العالم الجسماني (الحياة الدنيا) ضمادة على رأسه المباركة حتى يخمد ألمها. وعندما كانت ترى أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالات كانت تمسك بيده وتدعو له. وحينما أرادت أن تمسك مرة بيده لتدعو له أيضاً سحب يده هذه المرة وقال: “اَللّٰهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلٰى”. أي أن رسول الله فطن إلى أن المراد الإلهي هو انتقاله إلى دار البقاء. فهو تلقى رسالة من ربه مفادها “أدعوك يا رسولي، تعالَ” فحلّق نحو أفق روحه.
اللاهثون وراء الحياة الدنيا
- الصبر على العبادات والطاعات مهم للغاية، خاصةً في هذه الأيام التي غدا الدين فيها “موجهاً” من قبل السياسة تماماً، ويَستخدم فيها كثير من الناس المشاعر الدينية والعاطفة الدينية والحجج الدينية في سبيل الوصول إلى مناصب وتحقيق أهداف في الحياة الدنيا، وتفشت فيه ظاهرة “التدين الشكلي” بين الراغبين في جر جمهور الناس خلفهم. أجل، هناك كثير من الناس اليوم الذين أصبحت الحياة الدنيا شغلهم الشاغل بشكل كامل حتى عندما يتوجهون للجوامع ويصومون ويرتدون الحجاب ويتحدثون في المسائل المتعلقة بـ”الدين والديانة”.
- يخاطب الله تعالى من يلهثون وراء الدنيا بأحوالهم وسلوكياتهم في محكم تنزيله بقوله: “كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةً”. (القيامة: 20-21). أي: كلا، لقد سيطر حبّ الدنيا على قلوبكم وأعرضتم كليا عن الحياة الآخرة، وأنتم غافلون عن يوم الحساب، لاهون عن القبر وسؤال الملكين منكر ونكير والميزان، لقد ارتكبتم ذنوباً حتى فاض الكيل، إلا أنكم لا تزالون تتحدثون عن الدين.
- في الوقت الذي صار فيه الدينُ قوالبَ وصوراً نمطية، وتحوّل إلى اسم بلا مسمى، وإلى مجرّد غلاف وظرف وغاب عنهما المظروف والمضمون، وساد في كل مكان مظاهر شكلية جافة، بدءًا من أماكن الدراويش والمساجد وانتهاءً إلى المدارس، أعتقد أن الالتزام بأصول الدين المبين وفروعه وفرائضه ونوافله، والسعي لإحياء العشق والاشتياق في هذا الموضوع والحفاظ على حياتهما، إنما هو من أهمّ وأبرز الواجبات والوظائف التي تقع على عاتق المؤمنين الحقيقيين في وقتنا الحاضر.