بقلم: د. السيد ولد أباه
ما أن أُعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية في تركيا الأسبوع الماضي، حتى استأنف «أردوغان» مضايقاته للصحافة بإغلاق قناتين تلفزيونيتين معارضتين، وإيقاف صحافييها في حملة متصلة لإيقاف الأصوات الخارجة عن طاعته، كما شرع في خطواته لمراجعة الدستور لتحويل نظام الحكم إلى نظام رئاسي بسلطات مطلقة من أجل القضاء عملياً على حالة التعددية السياسية. المفارقة الكبرى البادية للعيان هي أن الانتخابات الأخيرة بقدر ما اعتبرت منافسة ديمقراطية شفافة ونزيهة وفق المعايير الشكلية للديمقراطية التعددية قوضت جذرياً إمكانات وآمال الوقوف ضد المشروع التسلطي لأردوغان الذي يهيمن حزبه (العدالة والتنمية) على مركز القرار منذ ثلاث عشرة سنة.
البعض تحدث في هذا الباب عن سيناريو بوتيني (نسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين) في تركيا، باعتبار التقارب الظاهر بين التجربتين في مستوى السياق التاريخي (الخلفية الإمبراطورية للدولتين)، وفي مستوى تجربة وآليات الحكم الجامعة بين السلطوية والديمقراطية التعددية، إنه المسلك الذي أطلق عليه في بعض الأدبيات السياسية مقولة «السلطوية التنافسية»، بيد أن نقاط الاختلاف عديدة بين النموذجين اللذين تشكلا عبر مسارين شديدي التمايز: التجربة الروسية الحديثة التي بدأت بالإصلاحات القيصرية في القرن التاسع عشر، وأفضت إلى الثورة البلشفية والنظام الشيوعي الذي تلت انهياره مرحلة طويلة من الأزمات الانتقالية لم تسفر بعد عن نسق حكم مكتمل ومتناسق. (حاول بوتين التبشير بالخط الملتبس، الذي أطلق عليه الديمقراطية السيادية)، والتجربة التركية التي قامت على الجمهورية العلمانية القومية التي بلورها مؤسس الدولة الحديثة «أتاتورك» على غرار النموذج الجمهوري الفرنسي.
ومن المعروف أن التجربة التعددية في تركيا بدأت منذ سنة 1946، وسمحت على مراحل متقطعة ومتأزمة أحياناً من التناوب السلمي على السلطة وتشكيل حكومات ائتلافية تداولت على السلطة، في الوقت الذي تدخلت المؤسسة العسكرية مرتين (1960و1980) لضبط المسار السياسي، بيد أن التجربة التعددية التي قامت في تركيا الحديثة لم يواكبها سياق ليبرالي حر على مستوى الحراك الأهلي والحقل المجتمعي، باعتبار أن نظام «الجمهورية التسلطية» حسب عبارة عالم الاجتماع «شريف ماردين» وضع قيوداً صارمة على تنوع وتعددية المجتمع الأهلي باسم الهوية القومية والقيم العلمانية، كما أوكل للبيروقراطية العسكرية والإدارية سلطات استثنائية تلغي عملياً مبدأ تمايز السلطات المقنن دستورياً. وهكذا ندرك كيف أن الديمقراطية التركية قامت على إقصاء الأقليات القومية والطائفية (الأكراد والعلويون أساساً الذين يصلون معاً إلى ثلث السكان)، كما قامت على تقنين عقيدة أيديولوجية للدولة تلغي معيار التعددية الفكرية الذي هو روح المنظومة الليبرالية.
ومع أن حزب «العدالة والتنمية»، الذي تأسس بداية العقد الماضي رفع عند دخوله المعترك السياسي شعار حماية الديمقراطية التعددية بإلغاء القيود القائمة على الحراك السياسي بما يفسر اصطدامه القوي بمؤسسات الجمهورية العلمانية من جيش وقضاء وهيكل تربوي، إلا أنه سرعان ما أعاد تثبيت مسلك التسلطية الأحادية بعد تقليمه أظافر الجيش (2011 و2012) واستلحاقه للمؤسسة القضائية، فعمد إلى مواجهة قوى المجتمع المدني الخارجة عن قبضته من تشكيلات دينية وثقافية (مثل جماعة الخدمة التي يشرف عليها الداعية الصوفي فتح الله جولن) وحركات يسارية ونزعات نسوية وشبابية، قبل أن يفتح الجبهة على القوميين الأكراد ويصل القمع شبكات الإعلام المكتوب والمرئي ومواقع التواصل الاجتماعي.
عندما تأسس حزب العدالة والتنمية عام 2001، قام على شكل ائتلاف واسع بين مكون أيديولوجي إخواني (من بقايا حزب الرفاه من جماعة أربكان)، وبعض رموز نخب الأناضول المحافظة التي تشعر بالامتعاض من هيمنة بيروقراطية مدن الغرب وبعض أطراف المجتمع الأهلي الديني، في حين ارتكز المشروع السياسي للحزب على ركنين أساسيين: أولوية إرادة الأمة واستعادة قيم الأصالة الحضارية. وإذا كان الحزب حقق نجاحات تنموية ودبلوماسية لا غبار عليها، فإن هذه المكاسب تواجه اليوم تهديداً نوعياً في ظل انقسام حاد للشارع التركي، لا تخفف منه نتائج الانتخابات التي أطلقت يد أردوغان في تحقيق مشروعه التسلطي دون أن تمنحه القدرة على الحفاظ على السلم الأهلي الذي هو أرضية الحالة الديمقراطية المستقرة.