علي أصلان الكاتب الصحفي في جريدة زمان التركية
اتصل الرئيس الأمريكي باراك أوباما مرتين بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال هذا الأسبوع. كان الاتصال الأول للإعراب عن تعازيه في ضحايا تفجيرات أنقرة، أما الثاني فيمكن اعتباره بمثابة تقديم أوباما “رسالة عزاء لسياسة تركيا الخاصة بسوريا”، مهما كانت الحكومة التركية ترفض استلامها.
وأفاد مصدر قريب للبيت الأبيض بأن أوباما أكّد في اتصاله الأخير حقيقة: أن السياسة الخارجية التركية في سوريا أثمرت “صفراً”!
الوضع خطير حقاً؛ إذ تعتبر تركيا بشار الأسد ووحدات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يدور في فلك منظمة حزب العمال الكردستاني مصدرَ خطرٍ على مصالحها. ومع ذلك فإن الأول يحصل على دعم عسكري من روسيا؛ “حليفه الاستراتيجي” في الشرق، بينما يحصل الثاني عليه من أمريكا “حليفه الاستراتيجي” في الغرب. فضلاً عن ذلك، فإن أمريكا وروسيا تتنافسان كفرسي رهان في جذب الأكراد لصالحهما والسيطرة عليهم، دون المبالاة بما إذا كانت أنقرة منزعجة من ذلك أم لا.
بدأت أنقرة التي صارت مثل “لب الفواكه المجففة” تحت القوتين العالميتين تبدي استياءها بصورة أكثر صراحة. فقد استدعت الخارجية التركية كلاًّ من سفيري روسيا وأمريكا في أنقرة الأسبوع الماضي، وأبلغتهما بردة فعل تركيا. إلا أن اللجوء إلى الخيارات غير الودية في العلاقات الدبلوماسية يشير إلى تدهور العلاقات المتبادلة. لذا رأينا أن الإدارة الأمريكية التي استاءت كثيراً من تصرف أنقرة المذكور عبَّرت عن ثباتها على سياستها الحالية من خلال اتصال أوباما.
وثمة من يشبّه هذا الاتصال الهاتفي لأوباما باتصاله الذي أجراه عندما اندلعت أزمة “كوباني”. حيث أجرى أوباما ذلك الاتصال الهاتفي بعدما قدمت أمريكا مساعدات للأكراد في محاربة داعش على الرغم من تحفظات تركيا. وبعد ذلك تخلت تركيا عن خطابها “كوباني على وشك السقوط”، وفتحت معبراً لقوات البشمركة الكردية. وقررت أمريكا تقديم المزيد من الدعم العسكري لمقاتلي الأكراد والعرب المناوئين لداعش بعد إعادة النظر في خططها إبان تدخل الروس في سوريا، وهي بذلك وضعت تركيا تحت الأمر الواقع مرة أخرى.
وقد تتساءلون كيف يُزعج الأمريكيون تركيا إلى هذا الحد مع أنها حليفة استراتيجية لهم؟ هذا صحيح، فهم لا يفعلون ذلك عموماً أو أنهم لا يحتاجون إلى فعل ذلك. ولكن إذا اقتضت الحاجة فإن أمريكا قوة عظمى تستطيع فرض قناعاتها وسياستها على حلفائها، وخصوصاً إذا كان هناك تناقض كلي بينها وبين حلفائها. كانت أقدمت على خطوة مشابهة في 2003 عند دخولها إلى العراق. فقد احتلت العراق رغم كل التحذيرات التي أطلقتها أنقرة. وفوق ذلك طالبت تركيا بفتح الجبهة الشمالية.الأمر هنا أبعد بكثير من “من هو المحق؟ ومن هو المخطئ؟” فالقوي عموماً هو الذي يفرض سياسته في العلاقات الدولية.
ولو نظرتم إلى الناطقين الرسميين باسم الإدارة الأمريكية لوجدتم أن علاقاتهم بأنقرة على ما يرام. ولكن الحقائق المجردة في واشنطن ليس معيارها ما تنطق به ألسنة المتحدثين الرسميين أمام عدسات الكاميرات، بل معيارها ما يهمسه المسؤولون غير المعلنة أسماؤهم في الأذن. إذن لنلقِ نظرة على الخبر الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 14 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، إذ قالت إن مسؤولين أمريكيين “لم يصرحوا بأسمائهم” قد أدلوا للصحفيَّينِ تيم أرانجو وأنَّا برنارد بهذه التصريحات: “… ستنفذ أمريكا مع حلفائها في سوريا كلَّ ما تريده في أي وقت تشاء مهما انزعجت أنقرة رغم إصرارها مؤخَّراً على موقفها في عدم السماح باستخدام قواعدها الجوية، وعدم الانضمام إلى طائرات الحلفاء الآخرين من أجل قصف المواقع التابعة لداعش. لذا فقد كان اتصال أوباما بأردوغان من أجل إشعار الجانب التركي بهذا الموقف عبر أسلوب لبق”.
ولا يزال الجانب الأمريكي كمن يستهين بذكاء أنقرة، حيث يصر على القول بأنه يقدم المساعدات العسكرية للمعارضين العرب لا لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والأكراد. لذا فإن الناطق الرسمي باسم البنتاجون بيتر كوك ربما زلَّ لسانه حين قال يوم الخميس: إن بعض الأسلحة التي رمتها الطائرات الأمريكية من الجو، قد حصلت عليها القوات الكردية. ولكن في نهاية الأسبوع عدّل البنتاجون هذه المعلومة وصرح بأن تلك الأسلحة تم إيصالها إلى السوريين العرب. لكن زعيم الاتحاد الديمقراطي “صالح مسلم” أكّد في تصريح أدلى به لوكالة الأنباء الكردية (ANF) حصولهم على 50 طناً من الأسلحة عن طريق أمريكا.
ومن المستحيل ألا تعلم أمريكا بأن الكثير من المقاتلين الأكراد ينضوون تحت راية العمال الكردستاني في تركيا ووحدات حماية الشعب الكردية في سوريا. فهم يتظاهرون بعدم معرفة ذلك وفق ما تقتضيه مصالحهم. ذلك لأنهم بحاجة ماسة إلى قوات برية في سوريا.
من الواضح أن أمريكا لا تتوانى عن تقديم الدعم العسكري لمجموعة مقاتلة تعتبرها تركيا، العضو في الناتو، خطراً عليها (سواء كانت محقة أم غير محقة)، وذلك من أجل الانتصار في مكافحة داعش. وكانت أنقرة هي الأخرى قد قدمت الدعم للتنظيمات التي اعتبرتها أمريكا إرهابيةً، وذلك من أجل الانتصار في الحرب بالوكالة ضد نظام الأسد (تذكروا استيقاف شاحنات المخابرات التركية المحملة بالأسلحة المتجهة إلى سوريا).