عبد الحميد بيليجي
كما أن الحديث عن خروج حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا عن الديمقراطية والقانون والعقل واجب على كل مثقف شريف، فإن تقدير النجاحات السابقة لها في شتى المجالات واجب أخلاقي أيضاً.
فقد عايشتُ بنفسي المرحلة الذهبية لبلدنا خصوصاً في مجال السياسة الخارجية على مدى 13 عاماً. حيث لمع نجم تركيا في الغرب وصارت قدوة تحتذى للعالم الإسلامي. فمن جانب تطورت علاقاتها بروسيا تطورا ملفتاً للأنظار، ومن جانب آخر أخذت تظهر حتى في مؤتمرات ومحافلَ لم يسبق لها الحضور فيها كالاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية.
تفاهم القائمون على أمور البلاد مع الجميع دون أن يهملوا أي محور من محاور العلاقات الخارجية. وعملوا على تصفير المشاكل مع دول الجوار، وتجنبوا التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، بل عملوا على حل مشاكلهم إن أمكن. وأجروا إصلاحات في المجالات الديمقراطية والاقتصادية والقانونية بعد أن تأخرنا فيها وكانوا يكدّون ليل نهار لتحسين صورة تركيا انطلاقاً من رؤية لامعة تستهدف الرقيّ بالبلاد إلى مصافّ الدول الحديثة المتمتعة بالثقل والاحترام في العالم. ولم يكن النجاح مقتصراً على الدولة فقط، بل كان ذلك النجاح ناجماً عن التعاون المتكامل بين عالم الأعمال والمجتمع المدني وحتى المسلسلات التليفزيونية والجمعيات الخيرية والخطوط الجوية التركية… وما إلى ذلك. وكان الرئيس التركي السابق عبد الله جول قد وصف هذه المرحلة بقوله: “10 سنوات من النجاح”.
أظنّ أن الملمّين والمهتمين من قرائي يعرفون جهودي للتعبير عن الصواب صواباً والخطأ خطأً بعيداً عن التعصّب لرأيي. فبينما صفّقت بالأمس لنجاحات الحكومة، أكتب اليوم حول الاتجاه السيئ لبلدي وأحزن كثيراً على المصير الذي ينتظره إن استمر على هذا المنوال. فقد كان الجميع في الشرق الأوسط يرون تركيا بالأمس لاعباً بنّاءً وجزءًا من الحل؛ أما اليوم فقد باتت دولة مهمشة وغارقة في المشاكل وفاقدة لاعتبارها وبخاصة فيما يتعلق بالأزمة السورية. ناهيكم عن حل مشكلات وأزمات المنطقة، فقد نجحنا (!) في حمل كثير منها إلى بيتنا الداخلي. وقد كنا على علاقات طيبة مع كل من سوريا وروسيا بالأمس، ولكن الأخيرة باتت اليوم تقصف “رفقاءنا” في سياستنا الخاطئة الخاصة بالأزمة السورية. ولا داعي لمزيد من الكلام لكي نفيق من غفلتنا وننتفض من رقدتنا لنعيد النظر في سياستنا.
أليست مقدمات الوقت الراهن تنبئ بنتائج مستقبلية؟ بلى، فقبل تدهور العلاقة بين حركة الخدمة والحكومة، في الأيام التي كانوا يوجهون إليّ دعوة للمشاركة في رحلات وزيارات الرئيس السابق عبد الله جول والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو كتبت ثلاثة مقالات بعنوان: “دروس لتركيا حول الشرق الأوسط”، وأشرتُ فيها إلى أن نهاية الطريق ليست إلا منحدر. ولأنني قلتُ: “مع أننا وريث الدولة العثمانية التي تُعدُّ آخر نظام وفّر الأمن والسلام في الشرق الأوسط، إلا أن حالنا الراهن يشبه “حفيداً مبتدئاً” أقدم على فعْل ما فعله “جدّه” بتجربة مديدة وحنكة كبيرة ومهارة عالية فقلب الأمور رأساً على عقب وزادها تعقيداً أكثر من السابق”، بادرت الأبواق الإعلامية الموالية للحكومة إلى إطلاق حملة ضدي. إذ كيف لي أن أصف أردوغان وداود أوغلو اللذين أعلنا عن بدء “مرحلة الأستاذية والبراعة” لحكمهما في البلاد بـ”المبتدئين”؟! فلو أنهم لم ينبهروا بتلك المرحلة الذهبية، ولو أنهم استمعوا إلى تحذيرات الأصدقاء لكان خيراً لهم وللبلد على حد سواء. ولكنهم بدلاً عن الاستماع للانتقادات والنصائح فضلوا نعت المنتقدين الناصحين بالخونة.
ويمكن لمن يشاء أن يعود إلى تلك المقالات التي كتبتها بمشاعر صادقة مخلصة، والتي جمعت فيها الانتقادات والنصائح في 10 بنود على النحو التالي.. لعلها تنفع السياسيين الجدد:
- الاحترام المتبادل هو الأساس في العلاقات الدولية، وانتهاك هذا الأساس عبر انطباع عودة الدولة العثمانية من خلال العثمانيين الجدد يلحق الضرر بالبلاد.
- يجب الوقوف على مسافة واحدة من الجميع في المنطقة، وينبغي ألا نكون طرفاً في الخلافات الداخلية.
- علينا ألا نحذو حذو الأنظمة الفردية في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الذي تبدي فيه شعوبها إعجاباً بديمقراطيتنا.
- معيار النجاح في السياسة الخارجية ليس زيادة عدد الأعداء حولنا بل هو تحويل العداوات إلى صداقة.
- كلما تواضعتم في المنطقة ازددتم جذباً للآخرين، وكلما استكبرتم زاد النفور منكم.
- إذا لم يكن هناك تجاوب وتلاؤم بين الخطاب والقدرة فسوف يُقضى علينا.
- علينا أن ننصت للانتقادات التي تأتينا من المنطقة بقدر ما نستمع لمديحها.
- يمكن أن نوصي دول المنطقة بالديمقراطية، ولكن إذا حاولتم تصدير الديمقراطية، فسيسألونكم: إن كانت سوريا غير ديمقراطية، فهل من دولة ديمقراطية في المنطقة؟
- نحن كدولة لا نعرف إلا القليل عن الشرق الأوسط، فكم عدد العاملين الملمين باللغة العربية في الخارجية التركية؟
- تعاملنا مع الربيع العربي بنظرة عاطفية رومانسية. إذ إن التوقع من الدول حلّ كل مشاكلها المتراكمة لتكون دولاً ديمقراطية خلال سنتين ليس إلا خيال ووهم.