عمر نورالدين
هل يمكن أن تعمل الديمقراطية دون صحافة حرة؟ بالطبع لا .. وفي كل نظام ديمقراطي سليم لابد من وجود آليات ضابطة لمن بأيديهم السلطة في مقدمتها الصحافة التي تعبر بحرية عن تطلعات الشعب واحتياجاته ومطالبه.
في ظل هذه الحقيقة، من المنطقي أن تحمل الأنظمة الديكتاتورية العداء للصحافة والصحفيين وألا تفوت فرصة واحدة للنيل منهم، وهي بذلك ترتكب جريمة من أبشع الجرائم في حق الإنسانية وليس في حق الشعوب التي تحكمها فحسب، لأن الحرية هي قيمة من أعلى القيم المهداة إلى الإنسانية، ومحاولة الاعتداء عليها أو إخراسها وإسكاتها بأية طريقة من الطرق هي جريمة بلاشك.
تقييد حرية صحفي واحد أو الاعتداء على صحيفة هو في واقع الأمر اعتداء على المجتمع بأسره، بل هو اعتداء على قيمة من أعلى قيم الإنسانية، التي ناضلت أجيال عبر قرون طويلة للحفاظ عليها وإعلائها.
وما تشهده تركيا على مدى أكثر من عام منذ الكشف عن فضحية الفساد والرشوة الكبرى التي تورطت فيها حكومة رئيس الوزراء السابق رئيس الجمهورية الحالي رجب طيب أردوغان في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2013 ، يشير إلى حالة من العداء بين السلطة، التي تكره كل صوت يخالفها وتضيق به ذرعا، وبين الصحافة التي تمارس دورها ومسؤوليتها الملقاة على عاتقها في كشف الحقائق وتوعية الشعب بما يجري من حوله.
تواصلت جولات الاعتداء على الصحافة الحرة ، ومحاولات تكميمها بطرق شتى من حملات التفتيش والمداهمة واصطناع الأدلة المزيفة إلى الحرمان من الموارد المالية والإعلانات، وكشفت عن وجهها القبيح في الحملة على حرية الصحافة في ديسمبر/ كانون الأول عام 2014 ، مستهدفة صحيفة زمان ورئيس تحريرها السابق أكرم دومانلي، ومجموعة سمان يولو الإعلامية التي لايزال مديرها العام هدايت كاراجا يقبع في غياهب السجن دونما كشف عن الأدلة التي وجد نفسه بسببها في هذه الحال المخزية لبلد كان يدعي يوما أنه النموذج الذي يجب أن يحتذيه العالم الإسلامي ودول الشرق الأوسط في الديمقراطية.
بدأت الحملات على حرية الصحافة بدعوى تشكيل تنظيمات إرهابية في إطار الكيان الوهمي المزعوم ” الكيان الموازي” ثم تحولت وسائل الإعلام والصحف المعارضة لحكومة العدالة والتنمية ورئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان جميعها إلى كيان مواز لأنها لم ترتض السكوت على الأخطاء، ولأنها من وجهة نظر السلطة أضعفت فرصها في الرسوخ على أساس أن هذه الأصوات المعارضة نجحت في خلخلة شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم في انتخابات السابع من يونيو/ حزيران الماضي، وبالتالي ضيعت حلم أردوغان في تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي، لتدخل السلطة في موجة جديدة من موجات القمع والترهيب بلغت ذروتها في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، الذي يستحق بلا منازع وصف ” أيلول الصحافة الأسود في تركيا” .
ففي هذا الشهر تصاعدت حملات التفتيش والاعتداء على مقرات الصحف على غرار ما حدث مرتين من جانب مجموعة من تشكيلات الشباب بحزب العدالة والتنمية المتحمسين للرئيس رجب طيب أردوغان، وتعرضت مجموعة دوغان، وهي المجموعة الإعلامية الأكبر في تركيا، لحملات شبيهة لما تعرضت له صحيفة زمان ومجموعة سمان يولو، وامتد الأمر إلى مجموعة إيباك وصحيفة بوجون، وفرضت أشكال جديدة من الرقابة على القنوات التليفزيونية المستقلة من خلال مؤسسة رسمية هي ” تي في بو” ثم تدحرجت كرة الحقد والغضب من جانب السلطة لتغري بعض أنصارها من المغيبين ليصل الأمر إلى حد الاعتداء والإيذاء البدني للكاتب بصحيفة حريت أحمد هاكان .. في واحدة من أبشع صور الممارسات ضد الصحفيين التي اشتهرت بها الديكتاتوريات في مراحل سقوطها..
تدرك السلطة الحاكمة في تركيا الآن أنها تخوض معركة صفرية وهي مقبلة على انتخابات مبكرة في الأول من نوفمبر / تشرين الثاني المقبل، تراها معركة غير محسومة حتى الآن، في ظل أوضاع اقتصادية وأمنية ضاغطة، وتخشى أن تكون تكرارا لما حدث في انتخابات 7 يونيو/ حزيران الماضي.. ولهذا فإنها تسعى بكل قوتها لإخراس آلة الوعي والضمير عبر شتى الممارسات غير المشروعة حتى لايكون هناك صوت إلا صوت واحد، وحتى يأتمر الجميع بأوامر من يريد أن يجمع بيده كل مقاليد السلطة في بلد كان يهفو يوما للديمقراطية.