بقلم: ممتاز أر تركونه
لعلكم تعرفون لعبة الدوامة التي يسميها الأطفال”البلبل”. تربطون خيطاً بطول 30 إلى 40 سم بطرف عصاً صغيرة، ثم تلفونه على دوامة ذات رأس معدنية مدببة بدقة متناهية. وإذا ما نفضتم الدوامة بمهارة تبدأ الدوران على الأرض بفعل السرعة المتولدة من الحبل المنحلّ. وبعد مدة تخفّ سرعة دوارانها، لكن إذا ما استخدمتم الخيط المشدود إلى العصا كسوط، وضربتم به الدوامة قبل أن تتوقف تماماً، فإنها ستكسب زخماً جديداً وتستمر في الدوران. والنجاح في ذلك متوقف على ثلاثة عوامل: الرأس المعدنية المدببة المزروعة في طرف العصا، واستواء الأرض التي تدور الدوامة عليها، ومهارة الشخص الذي يديرها.
تقوم المنافسة على السلطة في الديمقراطيات الراسخة على ركيزة القانون والعقل والشرعية، في حين أنها تشبه عندنا (في الشرق عامة) تدوير الدوامة. فالسياسي يبادر إلى برْي طرف العصا، أي يرفع السياسة عبر وضع نفسه في مركز الثقل، ثم يطهّر الأرض من وعورتها وخشونتها، أي من المعارضين، ويدير بعد ذلك الدوامة من خلال إنزاله ضربات متتالية عليها بقدر مهارته وإصابته في توقيت الضرب. تتوقف الدوامة أحياناً وتسقط، فيأخذها آخرُ ليواصل اللعبة من حيث توقف صاحبه. وهكذا تدور الدوامة على نحو مستمر.
وبناءً على ذلك، فلا بد من النظر إلى اتهام الرئيس رجب طيب أردوغان مسؤولي الأمن الأمنيين الذين يعملون تحت إمرته بـ”تحليل الأحداث والتطورات بشكل ناقص أو خاطئ” بشأن “الضعف” الذي ظهر في عملية مفاوضات السلام التي جرت بين المخابرات التركية والزعيم الإرهابي عبد الله أوجلان في محبسه على أنه محاولة بائسة لإدارة الدوامة التي أوشكت على السقوط. يبدو من ذلك أن قمة الدولة كرّست كل جهودها للبحث عن “كبش فداء”.
ولا بد من أن تكون المشكلة كبيرة بعد أن علمنا بأن أردوغان كان اتهم هؤلاء المسؤولين بـ”التغاضي عن تحركات المنظمة الإرهابية” قبل نحو شهر، ثم تراجع بعد عشرة أيام عن هذا الاتهام بقوله: “إنهم تعاملوا معها وفق تعليماتي”، واليوم نراه عاد إلى موقفه الأول في البداية. ذلك أن الفاتورة باهظة وينبغي العثور على ضحايا يدفعون ثمنها.
وما إن أدلى أردوغان بهذه التصريحات حتى بدأنا نشاهد تداعياتها ونرى ردود فعل “البيروقراطيين” الذين تحدث عنهم أردوغان، والذين يأتي في طليعتهم “أفكان ألا” بوصفه “مستشار رئيس الوزراء” في تلك الفترة (والآخر “خاقان فيدان” بوصفه “رئيس المخابرات التركية”)، حيث أقدم على محاولة أكثر يأساً من سابقتها، فسارع إلى تحميل الفاتورة للعسكريين. إلا أن القول الذي تلفظ به “ليس من الضروري الحصول على التصريح من أجل تنفيذ عملية ضد المنظمة الإرهابية”، والذي سعى للاختفاء وراءه، ليس إلا عبارة عن مغالطة صرفة. نعم إنه مغالطة؛ لأن هذه المهمة ليست من مهام “الشرطة الوقائية” المعنية بالجرائم العادية، بل هي تتعلق بجريمة “الإرهاب” التي تخصّ الأمن القومي والبلاد كلها.
لنشرح القضية لمن لا يعرف: يُعقد كل صباح في الولايات والمحافظات والعمالات كافة “اجتماع أمني” بمشاركة عناصر قوات الأمن والدرك. وتتوسع دائرة هذه الاجتماعات بمشاركة عناصر الجيش والمخابرات مرة واحدة على الأقل في كل أسبوعين. فضلاً عن أن “الإرهاب” ليس من القضايا التي بمقدور المحافظ أن يتخذ القرار بشأنها لوحده. لكن إذا ظهرت مشكلة أمنية وتم عرضها على المحافظ في هذا الاجتماع، فالمسؤولية تقع على عاتقه باعتباره رئيس الإدارة المحلية التابعة للإدارة المركزية. أما المحافظ فيجري اتصالات مع الوزارة المعنية والحكومة وفق الأوامر التي تلقاها. والواقع أن المسؤول في مثل هذه القضايا ليس المحافظين بل الحكومة مباشرة.
هل يمكن الزعم بأن جميع البيروقراطيين الأمنيين باتوا “يحللون الأحداث والتطورات بشكل ناقص أو خاطئ” بعد دعوة أوجلان للسلام والموافقة الحكومية عليها عام 2013؟ وهل أخذت الوحدات الأمنية في كل بلدة ومدينة تنتظر تصريحاً وظرفاً مختوماً عليه من قبل المحافظ؟
هدف تصريحات أفكان ألا التي قال فيها: “لا يجب على عناصر الدرك والأمن أن يحصلوا على تصريح من المحافظين من أجل منع عمليات إرهابية” ليس محاولة شرح أقوال أردوغان ودعمه فيما قال؛ بل إنه يكشف مباشرة الغطاء عن المسؤولية السياسية في هذا المضمار. فهناك جريمة علنية تتفاقم كل يوم نتائجها، لذلك يجب أن يجدوا على وجه السرعة مسؤولاً يتحملها. فأردوغان يدعي قائلاً “لستُ أنا المسؤول، بل الموظفين” ويضع المسؤولية على كاهل البيروقراطيين، بينما أفكان ألا يقول “إذن لستُ أنا المسؤول وكذلك البيروقراطيين، بل انظروا إلى العسكريين”. ما نراه هو أن الإرادة السياسية تسعى إلى تحميل المسؤولية “الموظفين المعيّنين” من قِبَلها، في حين أن المسؤول المدني الأول عن الموظفين المعينين يتهم العسكر. إذن الأمر الذي لاشكّ فيه هو وجود جريمة؟ فمن هو المجرم إذن؟ الأول يتهرب من المسؤولية السياسية؛ أما الثاني فمن المسؤولية الإدارية. حسناً، فهل لا تزال الدوامة تدور؟ الجواب لا!
ولا ريب في أن تجنّب القوات الأمنية منع وقوع الجرائم، مثل عدم التدخل في منظمة العمال الكردستاني وهي تتجول في الأسواق والشوارع بالبنادق وتتفقد هويات المواطنين أو تخزّن أسلحة في مكان ما، جريمة كبيرة. وعقوبة هذه الجريمة هي الحبس المؤبد؛ لأنها تصنّف ضمن جرائم الإرهاب وتمسّ الأمن القومي والنظام الحاكم في البلاد. لذلك فإن المسؤولية الإدارية لا ترفع عن موظفي الدولة،كما أن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق السياسيين باعتبارهم المتسبّبين.
ومهما كانوا يتمتعون بـ”الأستاذية” و”المهارة”، فإن الدوامة باتت تدور متصادمةً مع الأرض.