عمر نورالدين
تبدو السياسة الخارجية لتركيا في حقبة حزب العدالة والتنمية التي امتدت لثلاثة عشر عاما بلا ضابط ولارابط ولاميزان.. بل إنها وبدلا عن أن تكون مركز ثقل تركيا النوعي وقوتها الناعمة باتت هي نقطة الضعف الكبرى التي نفذت منها تركيا إلى العزلة الضيقة التي تعيشها الآن.
الأزمة السورية كانت إحدى نقاط الاختبار المفصلية للسياسة الخارجية المرتبكة الفاقدة للمعايير التى اتبعتها تركيا منذ اندلاع هذه الأزمة عام 2011، ليتضح أن السياسة الخارجية في تركيا ليست عملا قائما على مؤسسة مستقلة بذاتها وأن التعرج فيها صعودا وهبوطا يرجع إلى تباينات بين من في يدهم رسم هذه السياسة وبين الإرادة الأعلى الممثلة في رجب طيب أردوغان كرئيس للوزراء، من قبل، ثم في أردوغان كرئيس للجمهورية.
بصمة أردوغان على السياسة الخارجية لتركيا قادتها إلى أن تصبح سياسة عرجاء مهلهلة تماما وفاقدة لكل تأثير إقليمي أو دولي فضلا عن إظهار الجانب الأسوأ للتبعية العمياء لواشنطن تارة، والتماشي القائم على المصالح مع روسيا أو إيران تارة أخرى.
أدلى أردوغان منذ أيام، متأثرا بزيارته لروسيا ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين، بتصريحات شكلت صدمة للرأي العام في تركيا وللمراقبين خارجها إذا اعتبر أن المرحلة الانتقالية في سوريا يمكن أن تتم بمشاركة بشار الأسد، الذي وصفه من قبل بالقاتل والمجرم والذي طالبه مرارا بالرحيل، ليعطي أردوغان مثالا صارخا جديدا على تردي السياسة الخارجية لتركيا وافتقادها للمعايير وارتباطها بشخص أردوغان ومواقفه المتغيرة من حين إلى حين، لا انتظامها كمؤسسة مستقلة بذاتها يقوم عليها متخصصون وخبراء يجيدون التعامل مع المواقف.
وكم من مرة أجبر فريق السياسة الخارجية في تركيا على تغيير مواقفهم بسبب رفض أردوغان لتوجهاتهم وعدم اعترافه بقواعد الدبلوماسية المعمول بها في العالم، مثلا عندما تقرر لقاء بين وزيري خارجية تركيا السابق مولود تشاووش أوغلو ونظيره المصري على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك العام الماضي بطلب من الخارجية التركية، لبحث سبل ترميم العلاقات بين تركيا ومصر، ألغي اللقاء في اللحظات الأخيرة بسبب غضب أردوغان من الترتيب لعقده بينما كان هو يستعد لرفع ” علامة رابعة” في قاعة الأمم المتحدة ونعت الرئيس المصري الذي كان حاضرا في المحفل نفسه بأنه انقلابي ومغتصب للسلطة.
إن السياسة الخارجية لتركيا تدار بالعقلية نفسها التي تدير معارك السياسة اليومية داخليا والتي تنحرف بتركيا نحو الاستقطاب والتنافر بين أبناء المجتمع الواحد والتي يتراجع فيها رموز وقادة حزب العدالة والتنمية ويحسبون مواقفهم على أساس تصريحات أردوغان الذي لايزالون يعتبرونه الرئيس الفعلي للحزب رغم وجوده في منصب رئيس الجمهورية الذي يفرض عليه الحياد والابتعاد عن شؤون الأحزاب والتعامل معها جميعا على قدم المساواة.
وليس أدل على ذلك من حملة التراجعات بين قيادات الحزب ومسؤولي الدولة في أعقاب حادث التدافع في مشعر منى الذي خلف أكثر من 700 قتيل من حجاج بيت الله الحرام إذ انبرى رئيس هيئة الشؤون الدينية التركية محمد جورماز ومعه رئيس البرلمان السابق نائب رئيس حزب العدالة والتنمية محمد على شاهين وسار معهما بشكل مخفف رئيس الوزراء أحمد داوداوغلو، وبشكل أكثر تطرفا رئيس بلدية أنقرة مليح جوكتشيك، في توجيه الانتقادات الحادة للسعودية واتهامها بالتقصير والعجز في تنظيم موسم الحج والمطالبة بإسناده إلى تركيا لأنها الأقدر على ذلك أو إسناده إلى منظمة التعاون الإسلامي، وهي مطالبات تتسق مع ما طالب به المسؤولون الإيرانيون، لكن كل هؤلاء عادوا ليحاولوا التهرب من تصريحاتهم بعد ان قال أردوغان إنه من الخطأ توجيه اللوم أو الانتقادات للسعودية التي تتحمل مسؤوليات كبيرة في تنظيم الحج..
وأيا كانت الدوافع والأسباب التي جعلت أردوغان يدلي بهذه التصريحات ” اللطيفة” تجاه السعودية، التي يسعى للتقارب معها بعد فترة من الجفاء لموقفه المتشدد تجاهها بسبب تأييدها عزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، فإن أوضح ما يمكن استخلاصه من ذلك هو أنه ليست هناك آلية من آليات العمل في تركيا داخليا أو خارجيا تتحرك دون توجيه أو إشارة أو ضغط من أردوغان.
لكن أسوأ ما في الضغط على مؤسسات السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي هو الحط من مكانة تركيا واعتبارها، فوق ما خسرت من سمعتها بسبب إهدار القانون وسياسات التعسف وقمع الحريات وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والإعلام والتوسع في حبس الصحفين المعارضين لأردوغان .
لقد فشلت تركيا العام الماضي فشلا ذريعا في الحصول على مقعد غير دائم بمجلس الأمن الدولي.والسبب هو أن الدبلوماسية التركية باتت عاجزة وكسيحة ومنحنية أمام طغيان رأي أردوغان وأحكامه التي يفرضها عليها .. وأن تركيا باتت في نظر العالم دولة تحكمها أيدلوجية حزب العدالة والتنمية التي باتت تقترب بتركيا أكثر من الأنظمة الفاشية وتبتعد بها كثيرا عن الديمقراطية .. ولأن سياستها الخارجية تبدو أمام الرأي العام في الداخل والمراقبين في الخارج سياسة عرجاء بلا ميزان.