سؤال: ماذا يعني التعمق في الشعور والفكر الديني؟ وكيف يتحقق الوصول إلى مثل هذا الهدف السامي؟
الجواب: يبدأ الشعور والفكر الديني لدى البشر بواسطة التلقين أولًا، ثم يتمسك به ويُتبَنَّى ويدوم ويحيا عبر التقليد، وربما إنْ أمعنّا النظر في بداية حياة كلٍّ مِنَّا، وانتقلنا إلى مرحلة الطفولة فإنه يتبين أننا لُقِّنَّا على نحوٍ بسيطٍ أركانَ الدين الأساسية كالنطق بالشهادتين والصلاة والصوم والزكاة والحج إلى جانب الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر، وأننا أخذناها عن طريق التقليد وتمسكنا بها مع مرور الزمن.
وقد ذهب جمهورُ الْعلمَاء إِلَى صِحَة إِيمَان الْمُقَلِّد وترتُّبِ الْأَحْكَام على هذا الإيمان فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة[1]، ولكن يجب تثبيت الحقائق المكتسبة بواسطة الإيمان التقليدي وإقامتُها على أرضية صُلبة سليمة ووعيُها جيدًا حتى يستطيع المؤمن مقاومة عواصف الإنكار والضلال العاتية؛ لأن التقليد قد يؤدي وظيفة مؤقتة في بداية الأمر إلا أنّ بقاء المكتسبات التي تم الحصول عليها بفضله ورسوخَها إنما يمكن بالتحقيق؛ فمثلًا آباؤنا وأمهاتنا لقّنونا المعلومات النظرية الأولية المتعلقة بوجود الله ووحدانيته، غير أنه ينبغي لنا لاحقًا وحين يقال “إن الله واحدٌ” أن نستشعر ونستنبط الحقيقة نفسها من كلّ شيء في الكون بل ومن كلِّ أمر تكوينيٍّ، تمامًا مثل سعي أحد الإخصائيين المعمليين إلى استخراج النتيجة بواسطة ما يجريه في المعمل من تحاليل وبحوث، فيلزم في هذا الموضوع التحلي بالإيمان القوي السليم الثابت الراسخ والذي لا يتزعزع حتى وإن تعرض لهزة أرضية بقوة عشر درجات على مقياس ريختر؛ والذي يجعل صاحبه يقول: “وإن زعموا عكس هذا خمسين مرة فتلك هي الحقيقة وليس ما زعموا، وقد أرتاب من أن تكرار العدد اثنين مرتين يساوي أربعة، غير أن الحقائق الإيمانية تشكّل في داخلي قناعة وإيمانًا لا تمكن معه ذرة شك أو شبهة!”
الخلاص من التقليد منوط بالجهد والسعي
إن كان الأمر كذلك فلا بد أولًا من الحفاظ على هذه القيم التي فطرها الله جل جلاله فينا وتلك التي اكتسبناها عبر المناخ الثقافي الذي نشأنا فيه وكذلك التي توارثناها من آبائنا، ولا بد من أن نراجع أنفسنا باستمرار خشية أن نفقد هذه القيم، وعلينا كي نثبّتها على أرضية أكثر صلابة وثباتًا أن نداوم على مراقبتها بشكل ثابت، ويجب الركض والسعي الدائب من أجل إحكام وتوثيق الأركان الإيمانية.
إننا -بالنظر إلى الغالبية العظمى مِنّا- ولدنا من أبوين مسلمين، ونشأنا في وسطٍ يسود فيه الدين الإسلامي، ويتردد من مآذنه الأذان جهوريًّا، ويتلى في جوامعه القرآن الكريم تلاوة رقراقة، وتلقى في جنباته المواعظ والنصائح الدينية، وبهذا فقد منحنا الله جل جلاله القدرة على تحصيل جميع هذه الحقائق على المستوى النظري، وعليه فإنَّه ينبغي ألَّا تفتر هممنا، وألَّا نترك هذه المكتسبات المهمة على حالتها الأولى دون أن ننميها، بل علينا أن نجتهد ونسعى دومًا كي نسمو ونرتقي بها إلى الأعلى، أما التصرفات والسلوكيات العكسية المخالفة لذلك فإنها تعني نكرانًا للجميل وإساءة لتلك الأمانات.
أجل، بما أن الحق تعالى قد منَّ علينا بمعرفة الجانب النظريّ لكل هذا، وحمَّل إرادتنا أمانة تحصيل الجانب العملي منها فإنه يلزمنا أن نركض في إثر تلك الأمانة بكل جهودنا ومساعينا.
مراتب اليقين والطريقُ المؤدية إلى التحقيق
إنَّ مفاهيم “علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين” ربما تضطلع بمهمة العاكس الضوئي في الطريق المؤدية من التقليد إلى التحقيق.
فعلم اليقين يعني إخضاع الأشياء والحوادث وتحليلها تحت أطياف العلم المنيرة، واستنباط الحِكَم والمعاني الكامنة في الأوامر التكوينية عبر التفكر والتأمل، والوصول بهذه الطريقة إلى معرفة يمكنها أن تثبت حقائق الإيمان بالأدلة والبراهين، وإنَّ مطالعةً وبحثًا وتحليلًا بهذا الشكل سوف يقوم بمهمة تأمين المكتسبات عن طريق التقليد، وحمايتها وحراستها كالصوبة ضد ما يلقيه الملحدون من شبه وشكوك ووساوس وغير ذلك، أما عين اليقين فيعني مشاهدة ما نعتقده من معلومات نظرية بأدلة وبراهين قاطعة مشاهدة مباشرة، أي استشهاد لطائف الإنسان كلها على تلك الحقائق.
نعم، الرؤية تختلف عن النظر، فمن حظي بوجهة نظر سليمة وبالتالي بمشاهدة ما وراء ما ينظر إليه فإنه ينظر إلى الطبيعة من حوله نظرة متميزة حتى إنه ليعدو من شجرة إلى أخرى يرغب في تقبيلها، لأنه يشاهد في وجه كل شيء تجليًا من تجليات أسماء الحق تعالى فيخرّ ساجدًا، والذين أبحروا في آفاق عين اليقين يشاهدون آلافًا من تجليات الحق تعالى في كل موجود، وينجذبون أحيانًا، ويعبرون عن مشاعرهم بما يشبه عبارات نيازي المصري (ترجمة):
ظننتُ أنه لم يبق في العالم من حبيب
حتى إذا تخليتُ عن نفسي رأيتُ أن كل شيء حبيب
أي إن الإنسان حين يتخلى عن نفسه يبدأ في رؤية تجليات الحق تعالى في كل شيء فيغيب عن نفسه في استغراقٍ ويذوب في هذا البحر ويفنى فيه.
لا تتجلى أنت ما دُمتُ أنا في الميدان
فشرطُ إظهار وجودك أن أكون غائبا (غَوثي)
أي حين يتخلى الإنسانُ عن وجوده ويذيبه أمام الوجود الحقيقي يفتح الأبواب إلى آفاق حق اليقين، والواقع أننا لا ندري هل يُيسَّر لإنسانٍ الفوزُ بمرتبة حق اليقين على أكمل وجه بهذا المعنى؟ وبينما يقول فضيلة الشيخ الإمام الرباني في مكتوبٍ من كتابه “المكتوبات” إن هذا ليس ممكنًا في الدنيا، نجده في مكتوب آخر قائلًا بأنه ممكن بقدر معين، وتوفيقًا بين هذين الرأيين يمكننا القول إنَّ ظل حق اليقين قد يتيسر لبعض الناس في الدنيا، إلا أن حقيقته الأصلية ستظهر في الآخرة، لأنه حيث تسبق القدرةُ الإلهيةُ الحكمةَ الإلهيةَ يظهر حق اليقين على حقيقته ويشعر الإنسان بتلك الحقيقة بكل أبعادها بحسب أفقه.
إذا سألت فاسأل الله لا تنقطع بك السبل
إن أهل التحقيق ضربوا أمثلة لبيان مراتب اليقين التي سعينا للتعبير عنها باختصار، فقال بعضهم على سبيل المثال إنَّ علم الإنسان نظريًّا أن النار حارقة ومنضجة للطعام ومنيرة لما حولها حين تكون لهبًا وتصديقَه بذلك هو علم اليقين، أما عند نظره إلى النار المتأججة في المدفأة ومشاهدته بعينيه أنها مصدر للحرارة، ومنيرة لما حولها مضيئة له فهذا هو عين اليقين، ومن أجل تقريب مرتبة حق اليقين للأذهان ضربوا لها مثلًا باحمرار الملقاط في مدفأة ممتلئة بالنار مباشرة وعدم التمييز بينه وبين النار، وفي هذه النقطة الأخيرة لا وجود حقيقيًّا لي ولك، ليس هناك أحد سوى الله جل جلاله، حيث يخجل الإنسان في تلك النقطة أن يقول “أنا”، وإنما يقول “هو” فحسب، ويتنفسه في كل لحظات حياته.
إذًا ينبغي للإنسان أن يهرع دومًا كي يسمو من منزلة إلى أخرى، وأن يحوِّل كل حديث للحديث عن الله، هكذا يلزمه أن يذكره كل يوم بواسطة مكتسبات جديدة، علينا أن نقول كل يوم: “الحمد لله، تعرفنا اليوم على ربنا من جديد، وذكرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، وشعرنا بالشوق والحنين إليه، وقلنا: “فداء لك أرواحنا!”، وتحرقنا شوقًا إلى الانضمام إلى هذا المجلس العذب مرة أخرى.
وبهذا يتسنى للإنسان أن يحوّل ثواني عمره إلى سنوات. أجل، إن لحظات الإنسان العذبة الهنية هذه وحياته سعيًا إلى الوصول إليها، وتذكرها في عقله دائمًا غضة ندية سوف يجعل الثواني في حياته بل وما هو أقل من الثواني في حكم العبادة، ويرشحها للخلود، وما دام الإنسان يرى نفسه جديرًا بالأبدية وبرؤية الذات الأبدية، فالحصول عليها إنما يمكن بأن يعيش الإنسانُ مرتبطًا بما ذكرنا آنفًا.
اللهم امنن علينا بعنايتك في هذا السبيل واجعلها لنا رفيقًا، فسائلوك لا ينقطع بهم الطريق أبدًا.
وإن سألْنا اللهَ فإنه سيعطينا كل حاجاتنا إن عاجلًا أو آجلًا دون ريب، وقد عبّر فضيلة الشيخ محمد لطفي أفندي عن هذا أفضل تعبير وبأسلوب بسيط وسلس فقال (ترجمة):
ألا يُحبُّك المولى إن أحببتَه؟
ألا يُرضيك إن هرولتَ لتنالَ مرضاتَه؟
لو وقفتَ له على الباب، وفديتَه بالروح والنفس والأحباب
وعملتَ بأمره، ألا يجزل لك الثواب؟
[1] التفتازاني: شرح المقاصد، 264/2.
من موقع herkul.org