عمر نور الدين
ليس هناك بيت في تركيا لم يذرف الدموع على مدى الأشهر الثلاثة الماضية بعد أن أطل شبح الإرهاب الأسود من جديد بوجهه القبيح وكأنه مارد انطلق من قمقمه فجأة بعد انتخابات السابع من يونيو/ حزيران الماضي التي أخفق فيها بشكل أساسي الرئيس رجب طيب أردوغان في تحقيق حلمه الاستبدادي بأن يصبح رئيسا بصلاحيات خاصة من خلال نظام رئاسي بنكهة تركية طعمها مثل العسل، كما سبق وقال، وبني هذا الإخفاق على فشل حزب العدالة والتنمية في تحقيق عدد المقاعد الذي طالب به أردوغان في الانتخابات السابقة وهو 400 مقعد ليضمن تغيير الدستور براحة تامة.
لم يكن ضروريا أن يكون هناك شهيد في كل بيت تركي حتى يذرف الأتراك جميعا دموعهم على شباب في ربيع العمر راحوا ضحية المغامرات والنزوات السياسية وحرب الصناديق والأصوات في ديمقراطية من طراز غريب لاتعترف بنتائج الانتخابات إلا إذا كانت في صالح حزب معين وشخص معين، فصور الشهداء والنعوش كانت كافية لأن تسكب من أجلها العبرات، وتلعن من أجلها السياسة ومن يحترفونها ويوظفونها ويستبيحون كل شئ من أجل البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة.
أراد من رفضوا الاعتراف بنتائج الانتخابات الأخيرة في السابع من يونيو/ حزيران الماضي، أن يعيدوا اللعبة من جديد طالما أنها لم تأت في صالحهم ففعلوا كل شئ من أجل أن تتوجه البلاد باقتصادها النازف دما إلى انتخابات برلمانية جديدة في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وفي سبيل ذلك عرقلوا، من خلف الستار، تشكيل حكومة ائتلافية مع أي من الأحزاب الفائزة في الانتخابات إلى جانب حزب العدالة والتنمية لينتهي الحال بتركيا إلى البقاء تحت قيادة حكومة أقلية، تواصل بنجاح سياسات الاستبداد المفروضة من سلطة القصر.
لن نقول إنه الطموح الجارف لدى من يحلم بسلطة مطلقة هو الذي يدفع باتجاه تحطيم كل شئ وإشاعة جو من الرعب والإرهاب في النفوس، ونزع الطمأنينة من القلوب، وإهدار القانون، ومصادرة كل صوت مخالف، أو حتى منتقد، لكنه النزق الأعمى والطمع الجهول في السلطة بمفومها الديكتاتوري الأوسع.
وفي سبيل هذا النزق الأعمى أريقت الدماء وفرض حظر التجول في العديد من أنحاء شرق وجنوب شرق تركيا وسقط الأطفال والشباب والشيوخ قتلى في بروفة لحرب أهلية ربما تكون هي السيناريو القادم لو فشل من يطمع في الحكم الفردي في تحقيق مآريه عبر صناديق الاقتراع مرة أخرى.
ألم يكن يكفي أن تكون هناك رئاسة كما رسمها الدستور التركي حتى يطلب من يحلمون بسلطنة يريدون بعثها من القبور تحت اسم” تركيا الجديدة” رئاسة بنكهة خاصة؟ وألم يكن ما جاءت به صناديق الاقتراع هو ما تحدثوا عنه مرارا وتكرارا حتى ملت الأسماع الحديث عن إرادة الأمة وشعارات احترام الصناديق المقدسة، حتى تستباح دماء الأبرياء في حرب ضد إرهاب تم استدعاؤه على عجل من أجل القضاء على شعبية حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي أجهض حلم أردوغان بالرئاسة المطلقة، واقتطاع نسبة من شعبية حزب الحركة القومية عبر تعبئة البلاد في حرب ضد منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية؟.
هل انتبه هؤلاء إلى دماء الأبرياء التي أريقت أثناء حظر التجول في بلدة جيزرة التابعة لمحافظة شيرناق جنوب شرق البلاد، أو لمن أغلقت محالهم وقطعت أرزاقهم وانقطعوا تماما عن الحياة لأيام، أو لمن هجروا بيوتهم وأرضهم في ديار بكر في هذه الحرب المقدسة المزعومة التي خلفت مشاهد أليمة وكأن البلاد خرجت لتوها من حرب استمرت لسنين؟
لقد جسد هؤلاء بأفعالهم بعد الانتخابات التي فشلوا فيها مقولة لطالما رددها الديكتاتوريون في اللحظات الأخيرة قبل السقوط :” أنا أو الفوضي” كما جسدها أردوغان بتصريحاته الأخيرة التي أتت وسط هذه الدماء التي سالت في مواجهة الإرهاب، والتي لم تكن بردت بعد، عندما قال:” لوكان أحد الأحزاب (في إشارة إلى حزب العدالة والتنمية) فاز بـ 400 مقعد في البرلمان لكانت حلت المشكلة”.
الناس تبكي، والقلوب تتقطع، والأطفال يتيتمون، والزوجات يترملن.. وهم يتحدثون عن الانتخابات والصناديق ومقاعد البرلمان التي تحقق لهم الأمان والبقاء في الحكم ما شاء لهم البقاء.. ألا ساء ما يحكمون!