بقلم: د. سلمان العودة
سمعتُ وقرأت عن التدبُّر، وبمحاولة صغيرة جرّبت تفعيل التخيُّل في القراءة، فتفتحت لي عوالم عجيبة مغرية!
هل ورد لفظ الخيال في القرآن الكريم؟
ورد بلفظ الفعل: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾(طه:66)، وبحث الخيال في القرآن لطيف طريف تمنيت أن تُكتب فيه رسائل علمية.
في “التكوير، والانفطار، والانشقاق”؛ حديث عن القيامة “كأنه رأي عين”؛ كما ورد في حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا: “من سره أَن ينظر إِلى يوم القيامة كأَنه رأْى عين فليقرأ “إِذا الشمس كورت” و “إِذا السماء انفطرت” و”إِذا السماء انشقت” (رواه أحمد)، يجعل المؤمن يحس بأن انهيار نظام الكون المادي -كما وعد الله- آتٍ لا محالة، وربما قرأ السورة فتداعى إلى مخيِّلته المشهد كأنه يحدث الآن!
حين يحدِّثنا الله عن الجنة ونعيمها، ويُسمي لنا ما فيها، فذلك لأنه زوّدنا –سبحانه- بملكة التخيُّل؛ التي تجعلنا نتصوَّر تلك الأشياء، وإن كان ما في الجنة مختلفًا عما نعهد، ولكن يصدق عليه الاسم.
الفواكه، والأنهار، والمجالس، والسرر، والمتع، والنعيم.. تشبه ما عهدنا في الدنيا مع الفارق العظيم ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾(البقرة:25).
حتى قال ابْن عباس -رضي الله عنهما-: “ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأَسماء” (رواه أبو نعيم ) في “صفة الجنة”.
حين تتخيَّل نفسك وأنت تدلف إلى الجنة، وتستقبلك حورها وقصورها، وأنت تعيش فيها آمنًا؛ بلا خوف من الزوال، ولا من المرض، ولا من الموت، ولا من الأعداء، ولا من أحد.. ولا سلطان للحزن، ولا للألم، ولا للزمن عليك.. بل تعيش بالحب، والرضا، والطلبات المحققة؛ بلا تردد، ولا تأخر، ولا انقطاع.
حين يسرح خيالك، وتجعل روحك تهيم في ذلك العالم؛ العلوي، الغيبي، الجميل، المبهر.. يتحوّل إيمانك إلى حقيقة قلبية وحافز للعمل والصبر، وحاجز عن الإغراق في المتاع الدنيوي؛ خاصة حين يكون مشتبهًا أو محرَّمًا؛ لأنك تعيش حلمًا موعودًا غير بعيد.
وهذا يجعل النقلة إلى ذلك العالم بالنسبة لك ليست انقطاعًا، ولا فناء وعدمًا محضًا، بل تحول من عالم ضيق محدود مشحون بالآلام والمخاوف والاحتمالات والمظالم، إلى عالم العدل المطلق، والرحمة، والفضل، والجود، والعطاء الإلهي.
وكذلك ما يتعلق بالوعيد والعذاب للمكذِّبين، والمفسدين، والظالمين؛ يغدو رادعًا لك عن العدوان على بشر أو حيوان أو طير، وسببًا لشفافية قلبك وحساسيته من البغي على العباد، ولو كان البغي بكلمة أو حركة أو أمر يسير. فأنت تراه بعينك وقد وضع في كفة ليست لك بل عليك.
وهو العدل الذي لا ظلم معه، فليس أحد يعذَّب في الآخرة وهو يصيح: أنا مظلوم!
كلا.. كلا؛ ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾(الملك:11).
وهذا يشعرك بالإنصاف، ويقرب إليك لحظة القصاص من المجرمين والمعتدين والقتلة؛ سواء كانوا قتلة باسم الدين، أو السياسة، أو لمجرد الإجرام.
تخيّل مشاهد الأنبياء وحياتهم ودعوتهم وأقوامهم، وتكرار ذلك بواسطة تكرار القراءة للقصص القرآني يحوّل العلاقة بهم إلى صلة وثيقة، ومعرفة متزايدة، وإدراك واقعي لكثير من تفصيلات أحداثهم.
صرت تعرفهم وتتذكر مواقفهم التي مرّوا بها كأنك شاهدتها من قبل، ليس عبر شاشة أو عرض درامي.. بل على الأرض والطبيعة والميدان.
والقرآن يسوق القصص والوعد والوعيد بمفردات وتعبيرات وأوصاف تحفز الخيال، وترسم ملامح المشهد الغائب وكأنه حاضر مشهود.
ولذلك أمثلة تفوق الحصر؛ كما في قصة ابن نوح والطوفان: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾(هود:42-43).
وكما في حوار أهل الجنة وأهل النار في سورة الأعراف: ﴿وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى اْلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾(الأعراف:46).
وكما في وصف الفريقين في سورة الزمر: ﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾(الزمر:69). ثمَّ خيال يكشف لك المستقبل، ويستدعيه في صور تظل تلح عليك، وتفعل فعلها في وجدانك وشخصيتك.
وثمَّ خيال يصوِّر الحاضر البعيد الذي لا تطاله عيناك.
وثمَّ خيال يرسم الماضي، وينقلك إلى الغابر من أحوال الأمم والرسل، وصراع الحق والباطل.
الله تعالى وحده لا يلحقه خيال ولا تصور، فكل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾(طه:110)، ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ﴾(البقرة:255).
ولعل هذا من معاني قول الحق –سبحانه-: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾(الصَّافَّآت:180)، فيشمل تنزيهه تعالى عما لا يصح من صفات النقص وأوضاع المخلوقين؛ كما كان يقول المشركون والمحرِّفون.
ويشمل رفض كل خيال يلحق ذهنك حين تقرأ أسماء الله وصفاته وأفعاله، فالقارئ لا ينفك عن خيال، ولكنه خيال منفي؛ لأنه سبحانه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾(الشورى:11).
وبمقدور المؤمن أن يُثبت كمال البارئ وجماله وجلاله، وسائر ما أثبت لنفسه من جميل الأسماء والأوصاف والأفعال دون أن يقع في تخيُّل صورة ما، بل يجرِّد مولاه عن تلك التصورات المعيبة؛ التي تداعت إلى الذهن بحكم الدلالة اللغوية أو العرف البشري المحدود، فالله أعظم من أن يُحيط به عقل، أو يُدركه وهم، أو يلحقه خيال.
وهنا يتجلَّى الفرق الكبير بين الروح الصافية الواعية العاقلة المترقية في مدارج الكمال والعبودية، وبين الأرواح الكثيفة الضعيفة المأسورة المقهورة المتثاقلة كأرواح العوام!
ويظل المؤمن مجاهدًا في تحقيق هذا المقام الأعظم والترقِّي فيه، وفي التوازن بين الشعور بالحب، والشعور بالخوف منه، وبالرجاء فيه، وفيما عنده؛ مستعينًا بربه في الوصول إلى أكمل حالاته؛ التي يحب أن يلقى ربه عليها.
وله الحمد، وهو المستعان، وبه المستغاث، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
من موقع مجلة حراء