من شادية نصر الله
فيينا 2 سبتمبر أيلول (رويترز) – صرخت مها من الفرحة “هل هذا
قطارنا حقيقة؟ هل هذا هو قطار ألمانيا؟”
كان ذلك مساء يوم الاثنين في محطة القطارات المركزية وكانت مها
معلمة اللغة العربية التي تبلغ من العمر 25 عاما تحمل طفلها ابن
العام الواحد بين ذراعيها وهي لا تكاد تصدق أن الرحلة المروعة التي
شهدتها أسرتها من سوريا على وشك الانتهاء.
قررت مها وزوجها خليل محاولة القيام بالرحلة الصعبة إلى أوروبا
مع طفليهما الصغيرين في يونيو حزيران الماضي عندما دخل مقاتلو
تنظيم الدولة الاسلامية مدينة كوباني التي يعيشان فيها وأعملوا
القتل في الناس بالسكاكين.
ويقول خليل إنه في غضون ساعات قلائل انتشرت عشرات الجثث في
الشوارع وتعرض بيت الأسرة للنهب. لقد حان وقت الرحيل مهما كانت
المخاطر.
ويضيف “اعتدت أن أحتفظ بصور أطفال موتى من المذبحة على هاتفي
لكني مسحتها. لم يعد باستطاعتي النظر إليها مرة أخرى.”
والآن يتكوم خليل مدرس اللغة الانجليزية الوسيم الفارع الطول
ومها وابنتهما هيلان ابنة الثلاثة أعوام ورضيعهما نور على رصيف
محطة القطارات في فيينا.
وتبين قصة هذه الأسرة الآمال العريضة والبؤس الساحق وما يصاحبه
من أخطار تهدد الحياة ذاتها مما يواجهه اللاجئون في محاولاتهم
اليائسة للوصول إلى أوروبا.
وهذه الأسرة ضمن مئات اللاجئين الذين سمح لهم بركوب قطارات في
بودابست يوم الاثنين متجهة إلى النمسا ومنها إلى ألمانيا.
وهدف خليل ومها هو الوصول إلى هامبورج في شمال ألمانيا ومنها
ربما إلى الدنمرك حيث تعيش شقيقة خليل.
أفاض الاثنان في الحديث عن رحلتهما من سوريا إلى قلب أوروبا مع
صحفية من رويترز رافقتهما من فيينا إلى باساو في جنوب ألمانيا.
وتعكس قصة الزوجين المرهقين اللذين نال منهما الخوف وسوء
التغذية قصص الالاف من اللاجئين من سوريا والعراق وأفغانستان
وغيرها من الدول التي مزقتها الحروب ممن نزحوا عن بيوتهم أملا في
حياة أفضل.
لكن ليس بوسعهما أن ينفضا عن كاهلهما ذلك الخوف من أن تسوء
الأمور إلى أن يصلا إلى وجهتهما النهائية وهما لا يعرفان شيئا
تقريبا عن وضعهما الرسمي في أوروبا – حالهما في ذلك حال الالاف
الذين لاقوا حتفهم في محاولة عبور البحر المتوسط أو على أيدي مهربي
البشر غلاظ القلوب.
* قاب قوسين أو أدنى من الغرق
يروي خليل ومها حكايتهما فيقولان إنهما عبرا الحدود إلى تركيا
قبل 25 يوما وهو عدد لا تفتأ مها تردده.
ومن تركيا شق الاثنان طريقهما إلى بودروم على الساحل الغربي
لتركيا وتجولا في منطقة غابات حتى عثرا على مهرب بقارب مطاطي.
تقول مها إن القارب يتسع أصلا لحمل أربعة أشخاص لكن المهرب كدس
الأسرة كلها فيه مع سبعة آخرين. وتضيف أن الماء بدأ يتسرب إلى
القارب على بعد بضع مئات الأمتار من الشاطيء وشارف ركابه على الغرق
قبل أن تستدير المجموعة وتعود أدراجها إلى الأراضي التركية.
ومن هناك سافرت الأسرة شمالا إلى أزمير بحثا عن وسيلة أفضل
لعبور بحر ايجه وباستخدام الاموال التي حصل عليها خليل من أسرته
دفع 3600 يورو مصاريف السفر بواقع 1200 يورو للفرد من البالغين
و600 للطفل الواحد لنقلهم إلى ميتيليني على جزيرة ليسبوس.
وبعد قضاء يومين في ليسبوس وصلت الأسرة إلى الأراضي اليونانية.
وباستخدام المهربين شقت الأسرة طريقها عبر غابات مقدونيا وصربيا
وانتهى بها الحال في مخيم على الجانب الآخر من الحدود في المجر.
وقالت مها “رأينا رجلا يحاول الهرب بالقفز من فوق السور. بحثوا
عنه بالطائرات وضربته الشرطة عندما أمسكت به. ورأيته ينزف دما.”
على القطار يوجد عشرات السوريين. وأبدى رجل بدا عليه الإرهاق
الشديد خوفه من أن يكون شقيقه بين 71 شخصا عثر على جثثهم في شاحنة
تبريد الأسبوع الماضي على أحد الطرق السريعة في النمسا. وكان الرجل
يردد “الوضع صعب جدا. صعب جدا.”
وخليل ومها من الأكراد ويعتزان اعتزازا كبيرا بتراثهما. ويقول
الاثنان إنهما حاولا قبل عام الهرب من القتال في شمال سوريا
بالانتقال إلى اربيل في اقليم كردستان العراق شبه المستقل لكنهما
وجدا الحياة فيه مكلفة للغاية واضطرا للعودة إلى كوباني.
ويبدي خليل اعتزازه بالضراوة التي صد بها الأكراد مقاتلي تنظيم
الدولة الاسلامية في المدينة. ويعرض صورا على هاتفه المحمول
لمقاتلات كرديات يقول إنها تمثل دليلا على أن الأكراد أقرب
للغربيين منهم إلى العرب.
* أين نحن؟
ومع دخول القطار محطة سان بولتن في النمسا يظهر على الرصيف
نشطاء يرفعون لافتات تأييد للاجئين. لكن الخوف يمسك بتلابيب مها
وتتساءل “هل هذا احتجاج ضدنا؟”
بعد ساعتين وقرب منتصف الليل عبر القطار الحدود إلى ألمانيا
وتوقف في باساو.
ثم تدخل إمرأتان ألمانيتان ومعهما دراجتان رياضيتان من أحدث
الدراجات وتصرخان عندما تريان مها وهي ترضع طفلها نور بين حاملي
دراجات خاليين.
توميء الاثنتان بقسوة وتصران أن تنهض مها. فقد دفعتا ثمن
استخدام حاملي الدراجات وراحتا ترددان أنهما لا تعبآن بما حل
بالأسرة أو مدى شعور أفرادها بالارهاق.
وبعد دقائق يصعد رجال الشرطة وهم يرتدون السترات الواقية من
الرصاص إلى القطار ويوقظون اللاجئين بالكشافات التي يحملونها
ويرغمونهم على النزول من القطار.
وفجأة يخبو شعاع الأمل الذي رأته مها على الرصيف في فيينا قبل
ساعات واللاجئون يساقون إلى منطقة مخزن مفتوح لتقييم جنسياتهم.
وتتردد أصداء بكاء الأطفال في هواء الليل.
وتترقرق الدموع في عيني خليل وينتابه القلق خشية عدم السماح
لهم بمواصلة الرحلة إلى هامبورج ثم إلى شقيقته.
وتسأل مها وقد انتابها التوتر “ما اسم هذا المكان؟” لم تكن قد
سمعت من قبل عن باساو.
(إعداد منير البويطي للنشرة العربية – تحرير علا شوقي)