بقلم: علي بولاج
ترتبط علاقة الدين بالسياسة ارتباطاً مباشراً مع مواقف الإنسان من كل منهما. فإذا كانت السياسة حادثة اجتماعية في شكلها النهائي، فلا يمكن النظر إلى الأرضية التي تحتضن تلك الحادثة بمعزل عن الدين. وإذا كان الأمر كذلك فإن الدين، أيًا كان محتواه، يلعب دوراً محدِّداً أو مؤثِّرا -حسب الظروف – في المواقف السياسية.
إن الحلّ الذي وجده العالم الغربي لتنظيم علاقة الدولة بالدين في إطار العلمانية ينسجم مع تجربته التاريخية الخاصة والتصوّرات اللاهوتية النظرية والتطبيقات العملية لدينه.
واعتراضنا في هذا الصدد لا ينصبّ على ضمان العالم الغربي حرية الدين والضمير وسماحه بوجود تفسيرات دينية (المذاهب) في إطار تعددية معينة من خلال تبنيه فكرة العلمانية، حيث إن ذلك لم يشكّل مشكلة في الإسلام في أي وقت من الأوقات على الصعيدين الكلامي والفقهي على الأقل، وإنما ينصبّ اعتراضنا على اختزاله الدين كنتيجة طبيعية لتجربته التاريخية في مجال خاص هامشي نسبي فقط وتركِه السلطة والسياسة للشعب في البداية ولـ”مبدأ سيادة القانون” المحدَّد إطارُه العام من قبل القوى الإقليمية (الأوروبية) والعالمية (القوى الأنجلوسكسونية) في مرحلة مقبلة.
وإذا ما ودعنا الخطابات الجذابة المغالطة جانباً وأمعنا النظر فيما يحدث، فإنه انتُزعت السلطة من الكنيسة والملوك، ونقلت إلى الشعب بصورة مطلقة في البداية، إلا أنها سحبت منه فيما بعد بأساليب مناسبة، وسُلّمت إلى مفهوم “سيادة القانون” المجرد المصوَّغ وَفْق مصالح الطبقة النخبوية الحاكمة، نظراً لأن الشعب كان جاهلاً وغافلاً عما تحيكه له تلك الطبقة. إذ كان الأكاديميون ورجال القانون أي “الكهنة العلمانيون” هم من حددوا إطار مبدأ “سيادة القانون” ومضمونه ونظرياته ومعالمه الأساسية.
غني عن البيان أن العالم الإسلامي بحاجة ماسة إلى مبدأ سيادة القانون والتحرر من الطغاة والمستبدين، ولكن لا داعي للخداع والانخداع ونحن نسعى لتحقيق ذلك، إذ تكفي الشريعة التي سيتخذها المجتهدون من أصحاب الضمير والأخلاق مرجعية لهم لتحقيق مبدأ سيادة القانون. فالأوامر والنواهي الإلهية والمعروف والمنكر تعبّر عن سيادة القانون والحقوق. فالأفعال التي يعدها الإسلام “منكراً” تبقى منكراً حتى لو أقر بها ودعمها “القانون” الذي هو فوق كل الدساتير في العالم.
ومع أن “العلاقة بين الدين والسياسة”بدأت تقوم على أرضية معينة، فإن هذه المشكلة لم تجد بعدُ حلها النهائي، لا في العالم الغربي ولا في أية بقعة من العالم. صحيح أن الكنيسة تخلّت عن الدولة ظاهرياً، إلا أن الفاتيكان التي تُعدُّ طرفاً وعاملاً تاريخياً في هذا الصراع لا تزال دولةً وتؤثر في السياسة بشكل أو بآخر مع غيرها من الكنائس الأخرى. وعلى الرغم من أن الأحزاب المسيحية الديمقراطية والاجتماعية الديمقراطية تستلهم من القيم الدينية، إلا أن النصرانية التي استهلكت كل طاقتها ورسالتها اللاهوتيتين لم يعد بإمكانها إضافة أية قيمة لا للسياسة ولا للدولة.
ثمة فرق أساسي بين الغرب والعالم الإسلامي من حيث التكتلات الاجتماعية. فالعامل الأساسي الذي يحدد السياسة في الغرب هو الصراعات الطبقية على مدى التاريخ. وتسعى الأحزاب السياسية إلى إيصال الطبقات التي ترى أنها تمثل أفكارها ومصالحها إلى السلطة. ولذلك لا يمكن لنا تقييم الديمقراطيات الغربية بمعزل عن الصراع التاريخي بين الكنيسة الممثلة للدين والطبقات على السلطة. كما أن “التكتلات الاجتماعية الاقتصادية” الخاصة بالغرب ليست عالمية كما هو الحال في ثنائية الكنيسة والدولة. أما التكتلات عندنا (العالم الإسلامي)، بدءاً من الأمويين وانتهاء بالعثمانيين، فـ”تكتّلات اجتماعية ثقافية” تشكّلت على أساس الدين والمذهب بدلاً عن الطبقات. وعلى ذلك، فإن إقصاء الدين عن المجال السياسي في فضاء (عالم) لعب فيه الدين والمذهب دوراً محورياً، أو المبادرة إلى إلغاء أحكام الدين ومقترحاته الخاصة بالسياسة يؤدّي إلى مفارقة تاريخية وفصام كلّي عن التاريخ والتصور الإسلاميين. فالمثقفون العلمانيون والمتدينون العاملون على إقصاء الدين من مجال السياسة في العالم الإسلامي لوقوعهم تحت التأثير العميق للنظريات السياسية الغربية مصابون بهذين المرضين النفسيين. ولا أشكّ في أن أكبر الخطورة في هذا المضمار هو السعي لعَلْمَنة الدين عن طريق المتدينين.