بقلم: أيتاج أوزكان
تحرك السلطان محمد الفاتح من “أَدِرْنَة”، عقب إتمام الاستعدادات اللازمة، يوم الجمعة الموافق للثالث والعشرين من مارس / آذار (1453) على رأس جيشه، ويرافقه قادة الجيس ورجال دولته والعلماء والوزراء والأمراء ووصل أمام المكان الذي يسمى “طوب قابي (Top kapı)” يوم الخامس من أبريل / نيسان، وأمر بنصب خيمة هناك، وأمر أيضًا “جَبَه جِي بَاشِي (Cebecibaşı)” بتوزيع السلاح على جنود “قَابِي قُولُو” واستعداد غيرهم للقتال في اليوم التالي.
أعدت الخطط على أن تبدأ الحرب يوم الجمعة الموافق للسادس من نيسان / أبريل (1453) وكان قوام الجيس العثماني نحو ثمانين ألف جنديّ بما فيهم المتطوعون، وقد عسكرت هذه القوات في الأماكن المحددة لها والتي تم تعيينها بناء على جولات تفقدية ومخططات أجريت مسبقًا تحت إمرة “جَانْدَرْلِي خليل باشا (Çandarlı Halil Paşa)” و”زَاغَانُوسْ باشا (Zağanos Paşa)”، وحاصرت القوات العثمانية الأسوار البرية الممتدة من منطقة “آيوانسراي (Ayvansaray)” إلى “يَدِي كُولَه (Yedi Kule)”، وأما خيمة السلطان الفاتح فقد نُصبت على تلة “مَالْتَبَة (Maltepe)” مقابلة لمكان “طوب قابي” أضعف قسم من الأسوار فيما يُعتقد، وتمركز حولها أفراد القوات الخاصّة المكلّفة بحماية السلطان على شكل دائرة، وأخذت وحدات المدفعيّة مكانها أمام الخط المركزي للجيش العثمانيّ، وتمركزت في هذا الموقع المدافع الحديدية الطويلة وآلات الحرب المتعددة والمجانيق وأبراج الحصار المتحركة، وأما الإمبراطور البيزنطي فقد أمر بإنشاء مقر قيادة جيشه في “طوب قابي”، وذلك نظرًا لأن الأسوار هنا ضعيفة نوعًا ما لكون الأراضي الواقعة بين “طوب قابي” و”أَدِرْنَه قَابِي” مائلة، وسيتولّى الدفاع عن ذلك الخط القائد العسكريّ “جستيناني”.
عقب تحرك السلطان من “أَدِرْنَه”، وصل الأسطول العثماني إلى المنطقة تحت قيادة قبطان البحار “بلطة أغلو سليمان بك” بعد خروجه من سواحل “جليبولي”، وكانت مهمة الأسطول هي حصار المنطقة المحيطة بأسوار المدينة ومنع دخول أي مساعدات تأتي من الخارج، كما صدرت تعليمات إلى قيادة الأسطول بمحاولة دخول الخليج إذا سنحت الفرصة، وكان الأسطول يتألف من اثنتي عشرة سفينة من نوع “قادرغة” وحوالي سبعين سفينة شراعيّة، ونحو عشرين سفينة شحن.
وأما أسطول الحلفاء المكون من سفن البيزنطيّين وجنوة والبندقية والبابوية فقد تمركز عند مدخل خليج القرن الذهبيّ خلف السلاسل الممدودة على ضفتيه للحيلولة دون عبور الأسطول العثماني إلى الخليج.
وعقب أداء صلاة الجمعة يوم السادس من نيسان / أبريل (1453) أمام الأسوار، بعد إكمال عملية تمركز جميع فرق الجيش العثماني؛ بُعث رسول إلى الإمبراطور البيزنطي –كما تقتضي العادة الإسلامية- لدعوته لتسليم المدينة من تلقاء نفسه تجنبًا لإراقة الدماء من غير داع، إلا أن الإمبراطور رفض هذا العرض لثقته في أسوار وحصون مدينته، وبالمساعدات التي توقّع أن يتلقّاها من أوربا، غير أنه عرض على العثمانيين دفع الضرائب السنوية لدولتهم، وتسليم كافة المدن والقلاع باستثناء القسطنطينية، وإظهار التبعية لهم، لكن هذه العروض لم تكن كافية لإثناء السلطان الفاتح عن غرور المدينة.
وبعد أن فشلت عملية التوصل إلى مصالحة بين الطرفين، أعلن المنادون الطوافون بين وحدات الجيش أن الحصار قد بدأ، ودافع الإمبراطور البيزنطيّ وجنوده عن بلادهم وشرفهم ببطولة كبيرة، وذلك بالرغم من ضعف دولتهم وتردي أوضاعها، حتى إنهم صدّوا هجومًا خارج أسوار المدينة شنه عدد من الوحدات العثمانية المتطوعة غير النظامية في اللحظات الأولى لحصار القسطنطينية، لكنهم اضطروا إلى الانسحاب إلى ما وراء الأسوار بتدخل القوات العثمانية النظامية.
بدأت الحرب بإطلاق المدافع العثمانية قذائفها يوم السادس من أبريل / نيسان، وكانت المجانيق تقصف القذائف الحجرية، إلى جانب المدافع التي يصمُّ صوتها الآذان وتنشر اللهيب هنا وهناك، كما عمد الرماة العثمانيون إلى إطلاق وابل كثيف من سهامهم تجاه الثغرات في الأسوار حتى أنهكوا القوات البيزنطية المدافعة عن المدينة. لم يكن بمقدور الجنود العثمانيين فتح ثغرات تسمح لهم بالعبور إلى ما وراء أسوار المدينة، ذلك أن البيزنطيين كانوا يصلحون أي ثغرة تنشأ في الأسوار على الفور، ولقد واجه العثمانيون عائقين كبيرين منذ بداية الحصار؛ أولهما: الأسوار المنيعة، وثانيهما: النار الإغريقية التي لم يستطع الجنود الأتراك الاقتراب من الأسوار بسببها، وكانت من بين الطرق التي جربوها للتغلب على هذين العائقين هي حفر أنفاق تحت الأرض ووضع ديناميت لتفجير الأسوار، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى النتيجة المنشودة بسبب العوائق المختلفة التي واجهوها في كل مرة، وكان الصراع القائم فوق الأرض يقابله صراع آخر يجري تحتها. ثبتت المدافع الكبيرة يوم الحادي عشر من أبريل / نيسان في الخنادق الموجودة أمام “طَوبْ قَابِي” على شكل أربع بطاريات في مجموعات ثلاثية، وكان إلى جانب المدافع يوجد أسلحة نارية تشبه المدافع الصغيرة التي يمكن حملها باليد، وكانت قذائف المدافع العثمانية الكبيرة لا تهز أسوار القسطنطينية فحسب، بل في الوقت نفسه تزعزع معنويات سكان المدينة، وكلما سمع الشعب البيزنطي ضجيج ورأوا انهيار الأسوار، كانوا يبتهلون بالدعاء بقولهم “ارحمنا يا إلهنا”، وكان القصف المدفعيّ المكثّف من جانب القوات العثمانية بماثبة إرهاصة بدء هجوم عام قادم. وفي يوم الثاني عشر من أبريل / نيسان الذي لم يستطع فيه البيزنطيون التقاط أنفاسهم بسبب القصف العنيف للمدافع العثمانية، تحرّك الأسطول التركي المكون من مائة وخمسين قطعة بحرية مستغلاً الرياح الجنوبية التي هبت بشكل يسمح بهذه الحركة، واجتمع أمام منطقة “بَشِيكْتَاشْ”، ثم بادر إلى القيام بمناورة سريعة نحو الخليج، الأمر الذي أفضى إلى نشوب حالة من الاضطراب الشديد في صفوف البيزنطيين، لكن قائد الأسطول “بلطة أغلو سليمان بك” سحب سفن أسطوله بعد هذا الهجوم الذي كان بمثابةجسّ نبض للعدو؛ إذ كان الهدف من الهجوم هو قياس القوة البحرية للعدو، وقد شاهد البيزنطيون مناورات الأسطول العثماني الكبير من خلف الأسوار، مما استدعى لديهم حالة يأس شديدة؛ لأنهم لم يسبق لديهم تجربة أن تحاصر مدينتهم من البر والبحر وإنما اعتادوا على صد الهجمات البرية فقط، فالوضع هذه المرة مختلف تمامًا، وكان هذا المشهد المخيف باكورة إنذار بالقبضة العثمانية البحرية الجديدة. وفي اليوم نفسه الذي ضغط فيه الأسطول العثماني على الخليج، وقعت حادثة سلبية في مقر قيادة الجيش العثماني، حيث وصل وفد مرسل من ملك المجر إلى السلطان محمد ليخبره بأن هدنة “سمنديرا” الموقعة باسم “جان هونياد” لدى جلوس السلطان على العرش قد ألغيت، والسبب في ذلك أن “هونياد” لم يعد نائبًا للملك، وأعاد الوفد المجري نص الاتفاقية التي تحمل توقيع السلطان محمد، وطلبوا الوثيقة التي تحمل توقيع الملك المجر، كما بادر الوفد بالتلميح إلى الإعداد لحملة صليية جديدة من أجل القضاء على العثمانيين، لكن السلطان العثماني لم يُلقِ لهم بالاً، وكان يبدو أنه عازم على إنجاز العمل الذي بدأه، وبالرغم من التوتر الذي حدث في مقر قيادة الجيش العثماني، واصلت القوات العثمانية حصار القسطنطينية وقصف أسوارها وحصونها قصفًا مكثفًا.
بدأت الضربات الكثيفة بإحداث دمار كبير بأسوار المدينة وزعزعة الجدران والأبراج، إلا أن حامية المدينة كانت تبذل جهدًا جبارًا من أجل ترميم الثغرات الي أحدثتها القذائف العثمانية في الأسوار وبناء الأماكن المهدمة؛ إذ كانوا يصلحون الجدران المهدمة بالحجارة والبراميل والألواح الخشبية، وكان من الواضح أن العثمانيين سيحاولون القيام بهجوم شامل على أسوار المدينة عقب القصف الكثيف، وأما البيزنطيون فكانوا يحفرون الخنادق أمام الأسوار من أجل صد هذا الهجوم، ويملؤون البراميل بالتراب ويبنون خطًّا دفاعيًّا، ويعدون أوتادًا ذات رؤوس مدببة، وكان الإمبراطور “قسطنطين” يجري جولات تفقدية بين الحين والآخر في قدراتهم على التحمل وصد الهجوم، إلا أن الإمبراطور وسكان المدينة والجنود كانوا يدركون جيدًا أن هذه المرة تختلف تمام الاختلاف عن المرات السابقة، وأن الوضع وخم للغاية، فلم تكن المدينة قد تعرضت للضغط وأسوارها للتدمير لهذه الدرجة من قبل، وكان المشهد الذي أمامهم يزيد من يأسهم وخيبة أملهم. وبحلول يوم السابع عشر من أبريل/ نيسان بدأت تتحرك آلة حربية جديدة، إذ قربت القوات العثمانية الأبراج المتحركة من الأسوار، وبادر الجنود إلى ردم الخنادق المملوءة بالمياه، واستعد الجنود العثمانيون لشنّ هجوم شامل، وأجروا أول تجربة عملية ليلة الثامن والعشرينمن أبريل / نيسان.
استمر الهجوم -الذي بدأ بعد منتصف الليل- حتى شروق الشمس، وقد اقترب المقاتلون العثمانيون من أسوار القسطنطينية، مستقلين ظلمة الليل الحالك، وبدؤوا هجومهم بضجة كبيرة بالتزامن مع قرع الطبول، وكأن أهل المدينة أيضًا يسمعون هذه الأصوات المخيفة، وحاول الجنود العثمانيون الصعود إلى الأسوار بواسطة الحبال والسلالم التي ألقوها على الأسوار، أما حامية الأسوار فكانوا يدافعون باستماتة عن مواقعهم، وكان الجنود العثمانيون يسعون لسحب الحواجز الدفاعية التي شكلها الجنود البيزنطيون مستخدمين الرماح الخطافية والحبال ذات الأطراف الخطافية، وكان هدف الجنود العثمانيين تدمير الخنادق التي تحمي البنزنطيين، وفي الوقت الذي تعرضت فيه الوحدات العسكرية البيزنطية للضغط بنيران المدافع والبنادق وسيل من الأسهم، كان الجنود العثمانيون الذين حموا أنفسهم بالدروع يحاولون صعود الأسوار عبر السلالم التي أسندوها إلى الأسوار، لكن الزيوت والمياه المغليّة التي كان البيزنطيون يسكبونها من أعلى الأسوار والحجارة التي كانوا يلقونها كانت تحول دون صعود الجنود الأتراك، وكان دخان المدافع والبنادق يعيق الرؤية والحركة بشكل كبير، وفي النهاية صدرت أوامر للجنود العثمانيين بالانسحاب، فابتعدوا عن الأسوار تدريجيًّا، ولقد لعب القائد “جستنياني” والجنود الذين كان يقودهم دورًا حاسمًا في صدّ الهجوم العام الأول للعثمانيين. إلا أنه عندما فشلت هذه المحاولة، تقرر قصف أسوار المدينة بشكل أعنف حتى تضعف الأسوار بشكل كامل. كان هدف هذه التجربة من الهجوم العام هو قياس القوة الدفاعية للبيزنطيين، ولقد ظهرت في هذا الهجوم النقاط القوية والضعيفة في أسوار المدينة تقريبًا، وكان يجب على القيادة العثمانية إعداد مخططات مغايرة وفق هذه الوضعية الجديدة، وثبتت بطاريات المدافع العثمانية في المنطقة الواقعة بين “طَوبْ قَابِي” و “أدِرْنَه قابي” قعب تحليل حالة الأسوار جيدًا، لكن كان هناك ما يحير بعض القواد العثمانيين وهو أن القوة الدفاعية للبيزنطيين كانت لا يستهان بها، لأنهم كانوا عازمين على الدفاع عن المدينة ببطولة حتى آهر نفس لديهم، وقد سيطر الأسطول العثماني على جزيرة “بيوك أدا” الواقعة في بحر مرمرة في اليوم نفسه الذي فشل فيه هذا الهجوم العام الأول الذي قامت به القوات العثمانية، وكان هذا النصر سببًا في التخفيف –ولو قليلاً- من آثار خيبة الأمل التي شعر بها الجنود إثر فشل هجومهم.
وصلت مجموعة من الرسل القادمين من “كليبولو” إلى مقر قيادة الجيس العثماني يوم العشرين من أبريل / نيسان حاملين خبرًا مفاده أن سفنًا من “جنوة” تعبر مضيق الدردنيل حاملة على متنها الجنود والذخيرة والمؤن لدعم البيزنطيين، وقد ملئت أشرعتها بالرياح فتقدمت بسرعة حتى وصلت إلى مشارف القسطنطينية، غير أن حركتها توقفت جراء الانقطاع المفاجئ للرياح، وقد أصدر السلطان محمد أوامره بمصادرة هذه السفن في الحال أو تدميرها بالكامل إن لم تستسلم. هاجمت القوادس العثمانية التي كان يقودها “بَلْطَة أوغْلُو سليمان بَكْ” السفن الجنوية التي كانت تقف بلا حركة عند منطقة “سُوتُونْلَرَ” في “زَيْتِينْ بُورْنُو” وسط جلبة كبيرة، وحاصرة السفن العثمانية سفن جنوة من كل جانب، وقد بدأت المعركة بين الجانبين بالأسهم والحجارة الملقاة من الآلات المخصصة لهذا الغرض، وتداخلت السفن ببعضها البعض، وحاول الجنود العثمانيون إضرام النار بسفن العدو من أجل إحراقها، ولهذا كانوا يتشبثون بحبال سفنهم وحديدها لكن جنود العدو لم يسمحوا لهم بذلك، وبادروا إلى قذف الجنود العثمانيين بالحجارة من خلال الآلات، وقد بدأت المواجهة بين الأسطولين بعدما انغرز مخنس سفينة “سليمان بك” الأمرالية بإحدى سفن العدو، حاول الجنود العثمانيون إضرام النيران في السفن الجنوية من الأسفل وحرق أشرعتها بالأسهم التي ألقوها وقطع حبالهاوثقب هياكلها ببلطاتهم، كما سعوا من ناحية أخرى إلى الصعود إلى سفن العدو بواسطة الحبال الخطافية والسلالم، وأما من كانوا على متن السفن فملؤوا البراميل بمياه البحر وأفرغوها على الحرائق لإطفائها، وأجبروا الجنود العثمانيين المحاولين الصعود للسفينة على النزول إلى الأسفل بضربات الرماح والأسهم والفؤوس. مرّت ثلاث ساعات، لكن البحارة العثمانيين لم يستطيعوا الحصول على نتيجة إيجابية، وبعد أن تحولت المعركة ضد العثمانيين لبعض الوقت، رغب السلطان الذي كان يشاهد المعركة عن قُرب، في أن يتدخل على ظهر جواده في المعركة البحرية “وكأنه يريد أن يغير الموقف الذي عليه الجنويون لصالحه”، وأصدر الكثير من الأوامر لقائد الأسطول “سليمان بك” وسائر البحّارة الآخرين، لكن ذلك لم يغير سير المعركة، ولم تستطع السفن العثمانية إيقاف السفن الجنوية بسبب ارتفاع جوانب سفن العدو وتحركها سريعًا نحو الميناء بعدما امتلأت أشرعتها بالهواء، وفتح البيزنطيون السلاسل التي وضعوها عند مدخل الخليج، ومن ثم شدوها مرّة أخرى ما إن دخلت السفن التي تحمل المساعدات. تضاعفت الروح المعنوية ومستوى المقاومة لدى سكان القسطنطينية وجنودها بفضل المساعدات القادمة من جنوة، ونسي البيزنطيون -الذين شاهدوا هذه المعركة الطاحنة التي دامت لثلاث ساععات من خلف الأسوار- أنفسهم وبادروا إلى الاحتفال بالنصر الذي حققه اللاتينيون على العثمانيين، وعم الفرح المدينة ووصل إلى أبعد مدى، فيما أفضت هذه الهزيممة البحرية إلى تراجع مستوى الروح المعنوية بين صفوف الجيش العثماني.
من موقع مجلة حراء