أ.د. بركات محمد مراد (*)
يرى علماء النفس المحدثون، أن هناك طريقتين مختلفتين اختلافًا جوهريًّا للمعرفة تتفاعلان لبناء حياتنا العقلية؛ طريقة العقل المنطقي، وهي طريقة فهم ما ندركه تمام الإدراك، والواضح وضوحًا كاملاً في وعينا. وهناك نظام آخر للمعرفة قوي ومندفع، وأحيانًا غير منطقي، هذا النظام هو “العقل العاطفي”.
ويقترب هذا التقسيم الثنائي -إلى عاطفي ومنطقي- من التمييز الشائع بين العقل والقلب. فحين يعرف الإنسان بقلبه أن هذا الشيء صحيح، فهذا أمر يختلف عن الاقتناع، وهو نوع من المعرفة أعمق من اليقين وأكثر من التفكير فيه بالعقل المنطقي. فهناك علاقة طردية بين سيطرة العواطف وسيطرة المنطق على العقل، فكلما كانت المشاعر أكثر حدة، زادت أهمية العقل العاطفي وأصبح العقل المنطقي أقل فاعلية.
هذان العقلان (العاطفي والمنطقي) يقومان معًا في تناغم دقيق دائمًا بتضافر نطاقيهما المختلفين جدًّا في المعرفة بقيادة حياتنا. ذلك لأن هناك توازنًا قائمًا بين العقل العاطفي والعقل المنطقي؛ العاطفة تغذي وتزود عمليات العقل المنطقي بالمعلومات، بينما يعمل العقل المنطقي على تنقية مدخلات العقل العاطفي، وأحيانًا يعترض عليها. ومع ذلك يظل كل من العقلين ملَكتين شبه مستقلتين كل منهما يعكس عملية متميزة، لكنهما مترابطتان في دوائر المخ العصبية.
ويخبرنا المحلل النفسي “دانييل جولمان” في كتابه “الذكاء العاطفي”، أن هناك بين العقلين -في كثير من اللحظات أو في معظمهما- تنسيقًا دقيقًا رائعًا؛ فالمشاعر ضرورية للتفكير، لكن إذا تجاوزت المشاعر ذروة التوازن، عندئذ يسود الموقف العقلي العاطفي، ويكتسح العقل المنطقي.
• الذكاء العاطفي: انتهى العلماء المختصون في هذا المجال، إلى أن الذكاء الأكاديمي، لا يعدّ المرء في الواقع لما يجري في الحياة من أحداث مليئة بالاضطرابات، أو لما تتضمنه من فرص، ومن ثم فإن أي ارتفاع في مستوى معامل الذكاء، لا يضمن الرفاهية، أو المركز المتميز، أو السعادة في الحياة، ذلك أن مؤسساتنا التعليمية وثقافتنا، تقف في ثبات عند القدرات الأكاديمية متجاهلة الذكاء العاطفي الذي هو مجموعة من السمات، قد يسميها البعض “صفات شخصية”، ولها أهميتها البالغة في مصيرنا كأفراد.
إن الإسهام الوحيد للتعلم بالنسبة لنمو الطفل، هو مساعدته على التوجه إلى مجال يناسب مواهبه، ويشعر فيه بالإشباع والتمكن. لقد افتقدنا تمامًا هذه الرؤية، وبدلاً منها ما زلنا نُخضع كل فرد إلى نوع من الدراسة؛ إذا نجح فيها لن يكون -في أحد الأحوال- أكثر من أستاذ في إحدى المدارس أو الجامعات.
كما أننا نكتفي بتقويم كل فرد، وفقًا لما حققه في مسيرة حياته بهذا المستوى المحدود من النجاح. ثمة واجب علينا أن نقلل من الوقت الذي ننفقه في تحديد مستويات الأطفال، ونبذل وقتًا أطول في مساعدتهم على تحديد قدراتهم ومواهبهم الفطرية، ونقوم برعايتها وتنميتها، وهناك المئات من سبل النجاح، وعديد من القدرات المختلفة التي ستساعدنا على تحقيق ذلك.
وقد جاء العالم “جاردنر”، وبيّن أن أساليب التفكير قديمة فيما يخص الذكاء، وقد انتهى عصرها الذي كان يصنف الناس على أنهم إما أذكياء وإما عكس ذلك؛ حيث تقوم الاختبارات على فكرة اختبار نوع واحد من القدرات التي تحدد مستقبلك. وقد أثبت “جاردنر” -في كتابه “أطر العقل” (Frames of Mind) الذي صدر عام 1983- دحْض فكرة “معامل الذكاء”، معتبرًا أن هناك أنواعًا كثيرة متعددة من الذكاء. وقد توسع “جاردنر” وزملاؤه الباحثون، في قائمة أنواع الذكاء، حتى امتدت لعشرين نوعًا منها. ولا شك أن هذه الرؤية التعددية للذكاء، تقدم صورة أكثر ثراء لقدرة الطفل، والمواهب لدى الأطفال، على أساس مقياس “ستانفورد بنيت”، والذي كان يومًا المقياس الذهبي لاختبارات معامل الذكاء.
وأخذ تفكير “جاردنر” حول تعدد أنواع الذكاء يتطور مع الوقت، وبعد عشر سنوات من نشر نظريته أول مرة، لخص وجهة نظره في الذكاء على النحو التالي: “إن الذكاء في العلاقات المتبادلة بين الناس، هو القدرة على فهم الآخرين وما الذي يحركهم، وكيف يمارسون عملهم، وكيف نتعاون معهم… والواقع أن الناجحين من العاملين بالتجارة، والسياسيين، والمدرسين، والأطباء، والزعماء الدينيين، يتمتعون في الغالب بدرجات عالية من الذكاء في مجال العلاقات العامة. فالذكاء الخاص بين الناس، هو القدرة على تبادل العلاقات فيما بينهم التي تتحول إلى قدرة داخلية. إنها المقدرة على تشكيل نموذج محدد وحقيقي للذات، لكي يتمكن من التأثير بفاعلية في الحياة”.
• الوعي الذاتي: ويرى كثير من الباحثين، أن كل هذا يندرج تحت مفهوم “الوعي الذاتي”، الذي أصبح مفهومًا ضروريًّا بالنسبة للآباء في معرفتهم ببواعثهم وانفعالاتهم وإمكاناتهم النفسية والعقلية، وكذلك بالنسبة للأطفال أنفسهم، الذين نقوم على مساعدتهم في معرفة وتقويم قدراتهم الذاتية، وإمكاناتهم الفكرية والعاطفية.
و”الوعي بالذات” بإيجاز: “أن نكون مدركين لحالتنا النفسية وتفكيرنا بالنسبة لهذه الحالة المزاجية نفسها” وفقًا لقول “جون ماير” (John Mager) -العالم السيكولوجي بجامعة هابتشير- الذي وضع نظرية الذكاء العاطفي مع “بيتر سالوفي” بجامعة ييل. ويمكن أن يكون الوعي بالذات انتباهًا للحالات النفسية الداخلية، لكنه غير متفاعل أو قادر على تكوين رأي. لكن “ماير”، يرى أن هذه الحساسية قد تكون أيضًا أقل صرامة، لأن الأفكار المعهودة التي تعبر عن الوعي الذاتي بالانفعالات، تتضمن أفكارًا مثل “ينبغي أن لا أشعر بهذه الطريقة”، أو “أنا أفكر في أشياء جميلة لكي أشعر بالبهجة”، أو “لا تفكر في هذا الأمر” وهي الفكرة التي تطرأ على الذهن كرد فعل لأمر محبط للغاية.
ولذلك يقول “دانييل جولمان” في كتابه “الذكاء العاطفي”: “وعلى الرغم من التمييز المنطقي بين أن نكون مدركين لمشاعرنا، والقيام بالأفعال من أجل الأهداف العملية كلها، يسيران عادة جنبًا إلى جنب ويدًا بيد. ذلك لأن مجرد إدراكنا أن المزاج سيء، فهذا معناه الرغبة في التخلص منه. والتعرف على الحالة النفسية شيء متميز عما نبذله من جهود، حتى لا نقوم بفعلٍ ما بدافع انفعالي. فعندما نقول لطفل يدفعه غضبه لضرب زميله في اللعب: “كفى”، نستطيع بهذه الصيحة أن نوقف الضرب، لكن الغضب يظل يمور بداخله، وتظل أفكار الطفل ثابتة على زناد الغضب وهو يقول: “لقد سرق لعبتي”، ويستمر الشعور بالغضب دون تهدئته وتخفيفه”. فالوعي النفسي، تأثيره في المشاعر أكثر قوة، لأن الإنسان الغاضب إذا أدرك أن ما يشعر به وهو الغضب، فهذا يوفر له حرية كبيرة ليختار عدم إطاعة هذا الشعور، بل أيضًا خيار محاولة التخلص من قبضة هذا الغضب.
إذن، العالم الداخلي للطفل منذ ميلاده، ليس صفحة بيضاء يمكن أن نملأها بما نراه مناسبًا؛ فالطفل يولد ولديه طاقات ونزوات، وهي تتفاعل فيما بينها وتتصارع، وتتدامج وفق برنامج جامد ومحدد سلفًا بشكل مقنن وراثيًّا، وصولاً إلى مرحلة النضج. بل هو أقرب ما يكون إلى الإمكانية التي يجب أن تبُنى متخذة شكل المشروع الوجودي، وقد تنجح عملية البناء هذه، أو تتعثر بدرجات متفاوتة.
فالعالم الداخلي للطفل، لا هو ساكن ولا هو متماسك ومنسجم، بل هو الأقرب إلى الواقع، وخلال نمو شخصيته بتكامل إمكاناتها وقواها، يمر الطفل بسلسلة من الأزمات التي يتعين الخروج منها. هناك إذن ورشة شغل لترتيب البيت من الداخل، وصولاً إلى التماسك والانسجام وتنمية الإمكانات الداخلية، كي تتآلف العواطف مع العقل وتغذي بعضها بعضًا. وهناك شغل على العواطف والانفعالات لتحرير الطاقات الذاتية وإطلاقها، وصولاً إلى اكتساب الثقة بالنفس. ويشكل مجابهة الصعاب الداخلية مهمة لا مندوحة عنها، حتى إنها لتكاد تصبح جوهر الوجود الإنساني.
ولذلك يقول الدكتور مصطفى حجازي: “فمنذ الشهور الأولى، تطرح على الطفل مهام حاسمة لتقرير مستقبل وجوده الإنساني، أبرزها الدخول في العلاقات الإنسانية، وبناء أسس الهوية النفسية، وأسس السيطرة على النزوات. تتم المراحل الأولى لهذه المهام قبل سن السنتين، وحتى سن الثالثة يتعين قيام نظام متوازن من التماهيات مع الأم والأب يسمح للطفل ببناء هويته النفسية الجنسية (هوية الصبي أو البنت).
ويحدث ذلك خلال ترسيخ الروابط العاطفية واستقرارها وسلامتها. ثم تطرح عليه واحدة من أخطر المهام؛ وهي تمثل القانون ذاتيًّا مما يؤسس لنظام الضوابط الذاتية والنجاح في هذه المهام جميعًا، هو الذي يُرسي دعائم النمو النفسي العاطفي والعلائقي، وصولاً إلى الاستقلالية الشخصية.
ويسير تعزيز هذا البناء قدمًا ما بين سنّي 3-6 سنوات، فيكتمل تكوين الهوية النفسية، وتبرز الـ”أنا” والوعي بالذات، وما يصاحبها من أزمة معارضته للكبار واستعراض لهذه الذات، كما تنتظم أركان الشخصية. ولا بد من انتظار أواسط الطفولة المتأخرة (أي سن 7 إلى 8 سنوات) حتى تصفى الأزمات الداخلية، ويتم التنسيق والتكامل وتقيض السيطرة للذات، كما تُصفى معها مسألة الاعتماد الطفلي على العلاقات مع الوالدين. وهذا ما يسمح لطفل ذي هوية طفلية متماسكة بالاستقلال، والدخول في العلاقات الاجتماعية، والانتماء الاجتماعي من ناحية، والتحول في اهتماماته من العالم الذاتي الداخلي إلى العالم الموضوعي من ناحية ثانية.
لا تمر هذه العمليات في مختلف مراحلها، بدون أزمات يفرضها التناقض بين النزوات واصطراع الرغبات داخليًّا، وقيود وإحباطات العالم الخارجي من الناحية الأخرى. وكثير من هذه القضايا والأزمات التي يعيشها الطفل، لا تُصفى دفعة واحدة، وإنما تستمر بصورة مختلفة، وتتخذ أشكالاً وديناميات متنوعة تبعًا لكل مرحلة من مراحل النمو.
وفي كل مرة يحرز الطفل بعض التقدم في مسيرته التي قد تتعرض للتعثر والانتكاس، ولكنه لا يتخلى عن المحاولة فيعاود الكرة ويستأنف تصفية المشاكل والسعي إلى التكامل في أركان شخصيته. ومن خلال النهاية الطيبة والعودة المظفرة والانتصار، والتقدم والنمو عبر كثير من الوسائط الثقافية -كاللعب، والرسم، والقصص المكتوبة، والمسرح، والقراءة، ومشاهدة المسلسلات من الدراما، والخيال المصور في القصص التعليمية والخيالية- تتكامل شخصيته وتنمو ذاته، وتتحول فيه قوى التهديد والتدمير، لتغلب عليها قوى البناء واللقاء الإنساني، مما يعني تصفية للحسابات على الجبهة الداخلية، والسيطرة على العالم الذاتي.
• التوافق النفسي: إننا بحاجة إلى من يُشعرنا بأن الحب الذي طالت هجرته، وتاهت في مهب الريح أخباره، لا بد أن يعود أقوى مما كان؛ لأنه وصفة العلاج الوحيدة التي ستمنحنا الأمن العاطفي والاستقرار النفسي. ومن الطبيعي أننا لن نجد هذه الوصفة العظيمة على أرفف الصيدليات، ولا في حوانيت العطارين.
إن الأسئلة التي تغوص في أعماقنا متنوعة وكثيرة، ومعظمها قد تشرق في ظلام تلك الأعماق الجائعة اللاهثة المريضة، ليطفو همها على لسان الحقيقة الصارخة. من المسؤول الأول عن هجرة الحب من مهده الخصيب، ليشعل في مكانه نار الحرمان لهب أسود، وقودها العصيان والتدمير والموت؟ من المسؤول عن وسطية إشباع الغرائز وتوجيهها وتنظيمها ونموها في محاضن تربوية سليمة، حتى لا تنحرف عن مسارها القديم، والجوانب الإنسانية التي قد يصيبها العطن بغياب الدفء العاطفي؟
ومن هنا نفهم الأهمية البالغة التي يوليها القرآن الكريم في تهذيب العاطفة كونها تشكل مساحة واسعة في نفس الطفل الناشئ؛ فهي التي تُكوّن نفسه، وتبني شخصيته، فإن أخذها بشكل متوازن كان إنسانًا سويًّا في مستقبله وفي حياته كلها، وإن أخذها بغير ذلك -سواء بالزيادة أو النقصان- تشكلت لديه عقدًا لا تُحمد عقباها.
ومهمة التربية الإسلامية هنا، أو التربية السوية أيًّا كان مصدرها، هي السمو بتلك العاطفة الإنسانية ووضعها في مسارها الصحيح، ومن ثم توجيهها إلى أهم عاطفة وهي عاطفة محبة الله عو وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم عاطفة محبة الوالدين والإخوة وذوي القربى، وعاطفة الحب في الله، إلى غير ذلك من العواطف الإنسانية… والتي تتعدى بتأثيرها إلى كل الإنسانية، كالعدل والرحمة والإيثار والتنافس في بذل الخير ورفع السوء والضُر.
ولا ننسى هنا، أن العلاقة بين الأفراد في المجتمع، تشكل العامل الأهم في تحقيق التقارب النفسي والاندماج العاطفي الودي، والذي بدوره يساعد على الارتقاء الاجتماعي والثقافي والنفسي بالمجتمع، خاصة وأن الفرد يصبح أكثر التصاقًا بالآخرين، من خلال تبادل الأدوار، ونكران الذات، وسيادة لغة الحوار… فينشأ عن ذلك كله، الحب المغلف بالعطف، والحنان والاحترام المتبادل، والمشاعر الحساسة والمشاركة الوجدانية. ولذلك يعتبر من أهم العوامل التي قد تكون سببًا في الحرمان العاطفي، عدم فتح قنوات للتحاور مع المقربين لنا وإهمالهم، وعدم مراعاة مشاعرهم وتلبية طلباتهم وسماع أصواتهم. ولذلك لا بد هنا من تبني إستراتيجية تربوية ناجحة.
(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.