عمر نور الدين
مرت التطورات سريعة متلاحقة في تركيا بعد انتخابات السابع من يونيو/ حزيران الماضي.. شهد الشارع التركي ومعه العالم انقلابا في السياسات وتحولات دراماتيكية في السياسة الداخلية لاسيما فيما يتعلق بالمشكلة الكردية، كما ظهر للمرة الأولى أن تركيا تحارب تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش)، حتى وإن كانت هذه الحرب الخاطفة التي لم تستمر أياما تحولت، في لمح البصر، إلى حرب على منظمة حزب العمال الكردستاني التي تم استدعاء عناصرها من سباتهم بعد إعلان انتهاء عملية السلام الداخلي في تركيا.
ربما تكون هناك تفسيرات متعددة لما يجري، وربما يذهب البعض إلى أن التطورات في المنطقة أجبرت تركيا على الغوص فيها، أو يقول البعض إن تركيا باتت تكتوي بنيران صنعتها بنفسها عندما غفلت عن تحركات عناصر داعش وعن عمليات انتقال عناصره عبر الحدود مع سوريا، أو عندما تغاضت عن ادعاءات تزويده بالسلاح وعلاج مصابيه داخل مستشفياتها.. لكن الواضح من سير الأحداث رغم سخونتها أن هناك تفسيرا آخر لكل ما يجري في تركيا الآن .
قد يتصور البعض أن البداية كانت من المذبحة الإرهابية في سروج بمحافظة شانلي أورفا على الحدد السورية جنوب تركيا، التي راح ضحيتها 32 شخصا مع إصابة العشرات قبل أسبوعين أثناء انعقاد مؤتمر لاتحادات الشباب الاشتراكي لبحث مساعدة مدينة كوباني( عين العرب) شمال سوريا، ثم مقتل جندي تركي على الحدود وإعلان تنظيم داعش مسؤوليته عن كل هذا، لكن الحقيقة أن البداية كانت بعد انتخابات السابع من يونيو/ حزيران التي جاءت مخيبة لآمال حزب العدالة والتنمية في الانفراد بتشكيل الحكومة للمرة الرابعة على التوالي، فبدأ مسؤولو الحزب الحديث للمرة الأولى عن خطر داعش.
الحرب التي بدأت في جنوب تركيا، وامتدت إلى شمال سوريا عبر ضربات جوية للقوات التركية، أبدى الجيش في البداية معارضة لها على اعتبار أنها ستورط تركيا في المستنقع السوري، انطلقت في الأساس ضد داعش، لكنها تحولت بعد قليل إلى تركيز كامل على منظمة حزب العمال الكردستاني بعد أن أعلنت مسؤوليتها عن مقتل جنديين تركيين ردا على ما اعتبرته تقصيرا وتواطؤا حكوميا في حادث سروج.
وتزامنا مع هذا، ظهر أن هناك اتفاقا بين تركيا والولايات المتحدة على استخدام قاعدة انجيرليك جنوب تركيا في ضربات قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد داعش، وهو مطلب كانت أنقرة ترفضه بشدة وتقايض به على منحها الحق في إقامة منطقة عازلة داخل الحدود السورية.
إذن تغير كل شئ في لحظة، وتم اليوم قبول كل ما كان مرفوضا بالأمس، وتم تمرير الاتفاقات المتعثرة وفتح القواعد المستعصية، في صفقة ضحت فيها واشنطن بالأكراد ومنظمة حزب العمال الكردستاني، بعد أن كانت تنشد دعمهم من قبل في مواجهة داعش وبعد أن قدمت لهم الدعم في سبيل تحقيق هذا الهدف.
قد يكون تبديل التحالفات أمر طبيعي في عالم السياسة وحركة تطور الأحداث طبقا للمصالح، لكن ماهو غير مقبول أن يتم التضحية بمصالح وطن بأكمله في مقابل مصالح فرد واحد أو لتحقيق رغباته، لقد عادت تركيا لتسمع النغمة نفسها من رئيسها .. لقد خدعونا، قالها من قبل عن حركة الخدمة التي قدمت الدعم لحزب العدالة والتنمية عندما كان يسير على نهج الديمقراطية ليطلق عليها أردوغان في مرحلة ” تركيا الجديدة” مسمى خياليا هو” الكيان الموازي” الذي نسب إليه كل الشرور والموبيقات، واليوم يقول إن قادة العمال الكردستاني خدعونا عندما أعلنوا في 2013 تركهم السلاح، وكأن كل ذلك لم يكن في إطار عملية بدأتها حكومة أردوغان ذاته سميت في البداية بحزمة الإصلاحات الديمقراطية والانفتاح على الأكراد، ثم بعملية السلام، ثم تطورت إلى إنكار أن هناك مشكلة كردية في تركيا، ثم بإعلان انهيار عملية السلام ..”لأنهم خدعونا”.
وهكذا عاد المشهد الكئيب يخيم على تركيا بعد زواله قبل 3 أعوام، وعادت جثث الجنود الأتراك تصل إلى ذويهم لتدمي قلوبهم وهم يرون نعوشهم ملفوفة بعلم تركيا، عادت القلوب تتمزق، وعادت الأسر تنتحب على فلذات أكبادها التي تأكلها نيران الإرهاب .. عاد الحزن يخيم على تركيا التي لم تفتأ تتنفس الصعداء بعد نتائج الانتخابات البرلمانية في يونيو حزيران/ الماضي .. لتجد نفسها أمام الكابوس الأسود من جديد .. لأن هناك في تركيا من يريد أن يكسب بالحرب ما خسره في صناديق الانتخابات، ولأن هناك في تركيا من يحترفون إيقاظ الفتن.