بقلم: إدريس الكنبوري (*)
غيرت الأحداث الأخيرة واستهداف تركيا من حسابات نظام أردوغان، ولكن ذلك حصل بعد عام من الصمت والتواطؤ اللذين عملا على تسمين الوحش، وتركيا مرشحة لدفع فاتورة هذا الزمن الضائع.
بعد هجوم إرهابي أودى بعشرات الأشخاص على الحدود التركية السورية أسقطت أنقرة فيتو المشاركة في التحالف الدولي لقتال التنظيم المتشدد الذي قضم أجزاء من العراق وسوريا، ووجهت ضربات جوية ضد مقاتلي التنظيم، في عملية مفاجئة أعلنت تركيا بموجبها أنها تخلت عن واجب التحفظ، بعد أن أصبحت سيادتها الترابية محط رهان.
من يعد إلى تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في الشهور الماضية، سوف يتأكد من أن الرجل كان يتصرف وكأنه حليف موضوعي لداعش في المنطقة، ففي الوقت الذي كانت البلدان المجاورة والرأي العام الدولي منشغلين بمحاربة التنظيم الأكثر توحشا في هذا القرن، وفي تاريخ الإسلام بالتأكيد، كان أردوغان يناور من خلال محاولة التركيز على الوضع الداخلي السوري، مهاجما القيادة السورية بسبب سياسة الهروب إلى الأمام، لكن دون أن يجعلنا نفهم بأنه يفهم أن الأوضاع في المنطقة صارت من التعقيد بحيث يمكن معه فصل الوضع السوري عن الوضع الإقليمي العام.
كانت لدى أردوغان حسابات متعددة، فقد أراد أن يتشح وسام الزعامة في المنطقة أثناء أحداث الربيع العربي، مستغلا حالة الضعف البنيوي الذي توجد عليه الدول العربية، وفقدان الجامعة العربية للبوصلة، وعندما وصلت النيران إلى سوريا أدرك أن ساعة الحسم قد أزفت، ذلك أن سقوط النظام الحاكم في دمشق سوف يزيل من أمامه عدوا لدودا كان لا يتوانى عن تقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني، الخصم التاريخي لتركيا طيلة أكثر من ثلاثة عقود، وفي نفس الوقت سوف يضعف سقوط النظام السوري إيران، الحليف الاستراتيجي لبشار الأسد، ما سيعطي لتركيا حضورا أكبر في دواليب السياسة الإقليمية بعد انقشاع غبار المعارك.
وكان جزء من حسابات نظام حزب العدالة والتنمية أيضا خلط الأوراق في المنطقة العربية، وتحويل الفوضى إلى عنصر قوة في السياسة التركية الخارجية. ودون هذه الحسابات لم يكن من الممكن فهم لماذا غامر النظام التركي بإدارة ظهره إلى تحالف دولي واسع يحارب تنظيم داعش، ورفض فتح قاعدته الجوية للتحالف لتوجيه ضربات عسكرية إلى المناطق التي يسيطر عليها مقاتلوه، بينما هو الذي يقف على حدود التماس مع الوحش ينطوي على نفسه في شبه عزلة إقليمية، والأكثر من ذلك أنه فتح أبوابه أمام فلول المقاتلين المتوجهين إلى المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وغض الطرف لمدة عام كامل، على الأقل، عن العصابات التي تعمل في مجال تجنيد المقاتلين وتزوير الوثائق وإدخالهم التراب التركي وإخراجهم منه عبر الحدود، وكأن المخابرات التركية لا تعلم شيئا، وكأن الحكومة لا تصلها التقارير.
أظهرت تلك المواقف التركية أن نظام أردوغان يتعامل مع ظاهرة الإرهاب بازدواجية واضحة، فهو يعتبر في الداخل أن حزب العمال الكردستاني حزب إرهابي، بسبب تاريخ المواجهات الدموية مع النظام المركزي في أنقرة، لكنه تعامل مع إرهاب تنظيم داعش باعتباره إرهابا قابلا للتدجين، أو الاستئناس به، طالما أنه يقف بعيدا على الحدود ويضر بالآخرين فقط، ولذلك حوّل قضية القتال ضد هذا التنظيم إلى “وجهة نظر”، وبهذا كان أحد معوقات التحالف الدولي في مهمة القضاء على داعش.
لقد غيرت الأحداث الأخيرة واستهداف تركيا نفسها من حسابات نظام أردوغان، ولكن ذلك حصل بعد عام من الصمت والتواطؤ اللذين عملا على تسمين الوحش، وتركيا مرشحة لدفع فاتورة هذا الزمن الضائع بسبب سياسة التعنت واللعب بشكل منفرد في مسرح اعتقدت أنه ساحة فارغة.
*كاتب مغربي
من صحيفة العرب