مراد يتكين
كانت الحكومة التركية قبل ستة أشهر من الآن ترى أن التوصل لاتفاق مع منظمة حزب العمال الكردستاني (PKK) كضمانة للسلام والأمن الداخلي. والآن نجد أن منظمة حزب العمال الكردستاني قد بدأ يسلك طريقه للعودة إلى نهجه المعتاد عليه كما حدث عام 1984، وأصبح عدوا مباشرا مع تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي” داعش”. وقد أصبحت الآمال في ألا يتطور المشهد على الساحة التركية بالجرائم السياسية، يتم التعبير عنها في كواليس أنقرة بصوت خافت…
لم يكتف “داعش” بتنفيذ عمليات إرهابية داخل الحدود التركية فحسب، وإنما بدأ مهاجمة القوات التركية المرابطة على الحدود، وأسفرت هجماته عن استشهاد أحد أفراد القوات المسلحة التركية. وسبق هذه الواقعة واقعة أخرى استشهد فيها ضابطا شرطة بمدينة ديار بكر. وقبل ذلك أيضًا بيوم واحد، سقط شهيدان آخران من رجال الشرطة ببلدة جيلانبينار بمدينة شانلي أورفا، وأعلنت منظمة حزب العمال الكردستاني مسؤوليتها عن الحادث. إذن نحن أمام تصعيد في غاية الخطورة تشهده الساحة التركية في الآونة الأخيرة.
*****
فلنضع افتراضات أن داعش قرر شن هجوم بلدة سروج الإرهابي، الذي أسفر عنه مقتل 32 وإصابة ما يزيد عن مائة آخرين، من أجل ترهيب الحكومة التركية وأصحاب القرار السياسي في أنقرة، والذين أصبحوا يهددون الأمن القومي. بل وأنه أيضًا يسعى لإشعال معركة الاستقطاب داخل المجتمع التركي من خلال استهداف عدد من الشخصيات البارزة المعروفة بدعمها لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي يتصدى له في شمال سوريا.
*****
حسنًا، ما الذي يدفع العمال الكردستاني لارتكاب جرائم تؤكد الاتهامات التي يروج لها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوداوغلو وسائر المسؤولين بالدولة؟ هل هذا لأنه وضع كلمة النهاية في مفاوضات السلام مع الحكومة بالفعل؟
وهنا يظهر أمامنا للوهلة الأولى أنه يعود ليسلك طريقه مرة أخرى نحو جرائم الظلام التي يحترفها ويبدو فيها قويًا!
*****
إلى هذا الحد تفاقم الصراع بين تنظيم داعش ومنظمة حزب العمال الكردستاني وذراعها الاتحاد الديمقراطي في كل من العراق وسوريا، حتى وصل إلى الدخول في صدامات مباشرة أيضا داخل الأراضي التركية. وهنا نجد أننا أمام تصعيد آخر، ألا وهو أنه في اليوم الذي اتهمت فيه رئاسة هيئة أركان الجيش التركي داعش بالتورط في هجوم إرهابي بمدينة كيليس، قرر مجلس الوزراء التوقيع على المذكرة الخاصة بالسماح لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، باستخدام قاعدة إنجيرليك لضرب معاقل داعش في شمال سوريا. أمَّا إذا قررنا الاستماع إلى ما يدور في الأوساط الدبلوماسية في أنقرة، فسنجد أن هذا القرار الخاص بقاعدة إنجيرليك، تمت الموافقة عليه خلال الأسبوع الماضي، أي قبل وقوع حادث مدينة سروج الإرهابي، وحتى قبل استشهاد ضابطي الشرطة على يد العمال الكردستاني في مدينة آديامان، إلا أنه من الممكن أن نسمع ادعاءات من قبيل أن القرار لم يتم تأكيده إلا بعد أن أجرى الرئيس الأمريكي باراك أوباما اتصالا هاتفيًا بنفسه بنظيره التركي أردوغان.
*****
لا أقول هذا من أجل أن أعيد إلى الأذهان التسجيلات الصوتية للاجتماع الأمني، التي تم تسريبها من غرفة رئيس الوزراء أحمد داوداوغلو إبان فترة توليه وزارة الخارجية، والتي فضحت مخطط جهاز المخابرات التركية لافتعال هجمات صاروخية من الأراضي السورية على تركيا، لتكون ذريعة للدخول في الأراضي السورية.
إلا أن التصعيد الحقيقي والمقلق هو قلة المصادر والمعلومات الواضحة أمامنا لتقديم تصريحات وتوضيحات صريحة في هذا الصدد. وما يزيد المشهد غموضًا أيضًا هو الطريق المظلم الغامض الذي تسلكه مفاوضات تشكيل الحكومة الائتلافية بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، أو حتى خيار اللجوء لانتخابات المبكرة.
*****
إذن لم تكن تصريحات رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو لصحيفة “يني شفق” التركية، حول تزايد احتمالات اللجوء للانتخابات المبكرة خلال الفترة المقبلة، مفاجئة في ظل هذا التطور المثير الذي يمر به المشهد السياسي في تركيا، وقد كان منتظرًا.
ومن المعروف للجميع أن كيليتشدار أوغلو قد أكد للمقربين منه أنه حتى وإن توصل لاتفاق مع داوداوغلو، بصفته رئيس حزب العدالة والتنمية، حول كل النقاط العالقة فإنه ينتابه القلق من تصرف أردوغان الذي يسعى بشتى الطرق لتحويل البلاد إلى مسار الانتخابات المبكرة.
*****
يبدو أن المشهد السياسي قد تأثر بالتداعيات الأمنية التي شهدتها تركيا مع نهاية الأسبوع الماضي: إذ أصبح ينتاب أعضاء حزب الشعب الجمهوري مخاوف تدفعهم للجوء إلى التوحد في مواجهة داعش من ناحية، والعمال الكردستاني وسوريا والعراق وأمريكا من ناحية أخرى.
****
أمَّا على الجانب الآخر، في معسكر حزب العدالة والتنمية، فنلاحظ وجود انفلات للأعصاب وحالة من التوتر الواسع في صفوفه.
فقد كانت الحكومة التركية (حكومة العدالة والتنمية) قبل ستة أشهر من الآن، ترى التوصل لاتفاق مع منظمة حزب العمال الكردستاني (PKK) كتأمين للسلام والأمن الداخلي. والآن نجد أن منظمة حزب العمال الكردستاني بدأت العودة إلى طريقها المعتاد عليه كما حدث عام 1984، وأصبحت عدوا مباشرا مع تنظيم الدولة الإرهابي “داعش”.
****
لم يكن العمال الكردستاني بمفرده، بل أصبح حزب الشعوب الديمقراطي الكردي أيضًا هدفًا للحكومة، بعد أن نجح في الحصول على 13% من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، ودخوله البرلمان بـ80 نائبا برلمانيا.
ولن يكون من الخطأ إذا قلنا إن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي يعاني من حالة توتر واسعة أكثر من حزب العدالة والتنمية نفسه؛ إذ أنه لا يُعقل ألا تتسبب الهجمات التي يشنها حزب العمال الكردستاني ضد رجال الشرطة التركية في عدد من المدن، في نشوب خلافات فيما بين أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي الممثل السياسي له. وفي الوقت نفسه إطلاق دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية الأوامر لحزبه ببدء الاستعدادات لانتخابات مبكرة من الآن لا يعتبر محض صدفة.
****
بالتأكيد ليس حزب الحركة القومية وحده من يحاول الاستفادة من المأزق الذي وجد حزب الشعوب الديمقراطي نفسه فيه. وإنما هناك أيضًا من يحاول الاستفادة من هذا الوضع، ألا وهو حزب العدالة والتنمية، الذي سترتفع احتمالات تشكيله للحكومة بمفرده، إن عجز الحزب الكردي عن تخطي الحد الأدنى للتمثيل البرلماني (10%). وبالتأكيد هذا الوضع سيسمح لأردوغان بتطبيق النظام شبه الرئاسي، بعد أن أصبح أردوغان عاجزا عن إجراء التعديلات الدستورية التي يسعى لتطبيقها بكل ما أوتي من قوة. لقد قال نائب رئيس الوزراء بولنت آرينتش: “نحن لسنا مغامرون، ولا يمكننا أن نقول للشعب أنت مخطئ”؛ إلا أن تركيا ما فتئت تخرج من توتر سياسي نتيجة الانتخابات البرلمانية الأولى، لتجد نفسها أمام توتر وغليان سياسي جديدين بالإضافة إلى صراع دموي مسلح. فقد أصبحت آمال ألا يتطور المشهد على الساحة التركية بالجرائم السياسية، يعبر عنها الناس في كواليس أنقرة بصوت خافت…
****
لست متفائلًا لدرجة كبيرة عندما أقول ذلك. لكنني أتمنى ألا يكون ما نعيشه الآن مقدمة وبداية لما قد نعيشه بعد ذلك. نحن الآن في وقت يتطلب من الجميع أن يتصرف بمسؤولية وأن يترك مصالحه الشخصية جانبًا ليفكر في مصلحة الوطن…