عمر نور الدين
مثل حزب العدالة والتنمية مع ظهوره ولمعان نجمه على الساحة السياسية في تركيا أملا كبيرا وتحمست له الغالبية ممن كانوا يحلمون بحياة ديمقراطية سليمة تسودها حرية التعبير والفكر والاختلاف وتراعى فيها حقوق الإنسان. وظل الحزب هكذا ملبيا لتطلعات وأحلام شرائح مختلفة من المجتمع التركي عانت ضغوطا شديدة في عهود الوصاية العسكرية وأزمان الانقلابات المتعاقبة.. كان هذا الحزب هو أمل تركيا.. ولن نقول إنه كان الانتصار الذي يحلم به الإسلاميون وحدهم أو من يعتنقون فكر الإسلام السياسي من المنظور الاجتماعي لا المنظور السلطوي الذي يؤول في النهاية حتما إلى نوع من“ الفاشية الدينية“ إن جاز التعبير.
لو طرحنا سؤالا اليوم على هذه الشرائح التي وثقت في العدالة والتنمية واعتبرته الحزب المركزي الذي يحتضن مختلف شرائح المجتمع ولا يفرق بين المواطنين على أساس الانتماء السياسي أو الفكري أو العقيدة أو الأيدولوجية: ” هل لايزال حزب العدالة والتنمية هو أمل تركيا؟“.. ستكون الإجابة هي ” لا ” كبيرة جدا.
وحتى خارج تركيا في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي الذي وثق، ولن نقول انخدع، في تجربة هذا الحزب ذي الخلفية الإسلامية .. لو طرحنا سؤالا شبيها عن تركيا تحت حكم العدالة والتنمية وهل هي بلد يمكن الوثوق فيه والتعاون معه لحصلنا على هذه الـ ” لا” الكبيرة نفسها كإجابة عن هذا السؤال.
الخلاصة هي أن العدالة والتنمية لم يعد كما كان، وتغير وجهه تحت وطأة أحلام الانفراد بالسلطة وحكم الفرد، مع ما قادت إليه هذه النزعة من ضغوط على الحريات الإعلامية والفكرية والحقوق الأساسية وسيادة القانون فضلا عن حالة الاستقطاب البشعة التي أحدثت شرخا هائلا في جسد المجتمع التركي ، كان يمكن أن يقود تركيا إلى مصير مجهول لولا إظهار المواطنين قدرتهم على التصدي للرغبات السلطوية الجامحة عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 7 يونيو/ حزيران الماضي.
خرجت تركيا من هذه الانتخابات وهي أكثر ديمقراطية وشعورا بالأمان بعد أن ساد مناخ الخوف والتنكيل والاشتباه المعقول، الذي قاد إليه انفراد العدالة والتنمية بالحكم على مدى 13 عاما كرس فيها لإقامة ما أسماه قادته ” تركيا الجديدة” التي كانت في حقيقتها هي ” جمهورية الخوف الجديدة” في نظام وصاية مدني أشد وطأة من أنظمة الوصاية العسكرية.
لكن تركيا، التي تنفست الصعداء في انتخابات 7 يونيو/ حزيران، لم تتخلص تماما من كابوس النزعات الاستبدادية ومناورات العودة بها عما حققت من مكاسب في صناديق الاقتراع، ومحاولات استلاب إرادة الشعب، وإعادة الوضع لما كان عليه قبل 7 يونيو. فبدا المشهد ضبابيا وسط تأخر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تكليف رئيس الوزراء أحمد داوداوغلو بتشكيل الحكومة الائتلافية عبر التشاور مع الأحزاب الثلاثة الممثلة في البرلمان، مع إطلاق تصريحات بين وقت وآخر تشير إلى حتمية اللجوء إلى انتخابات مبكرة.
ولم تتخلص تركيا أيضا من أحزاب متصلبة أخرى مثل الحركة القومية، الذي نظر إلى زيادة شعبيته بنحو 4% خلال الانتخابات الأخيرة على أنه انتصار كبير يجعله بفضل الانتخابات المبكرة على المشاركة في حكومة ائتلافية.. ليلعب الحزب دورا معرقلا لاستمرار فاعلية وتحرك آلة الديمقراطية التي أنجزت نجاحا مهما في الانتخابات البرلمانية وليفتح الباب بعناده لذهاب رئاسة البرلمان إلى العدالة والتنمية ليبقى هرم السلطة في تركيا كما هو (رئيس جمهورية، رئيس برلمان، ورئيس حكومة من العدالة والتنمية) لا لشيئ إلا لرفضه التصويت لمرشح حزب الشعب الجمهوري الذي صوت له حزب الشعوب الديمقراطي في المرحلة الأخيرة من انتخابات رئيس البرلمان والتي كانت حاسمة في هذا الاختبار الديمقراطي .. مع العلم بأن الحركة القومية لو توجهت تركيا اليوم إلى انتخابات برلمانية جديدة ربما لن يحقق ما حققه في انتخابات 7 يونيو، كما أنه لن يستطيع أن يكون حزب المعارضة الرئيسي ولن يتمكن بالطبع من أن يكون الحزب الفائز بالأغلبية التي تجعله يشكل الحكومة.
في الديمقراطيات المختلفة في كل أنحاء العالم، يوجد هامش للتفاوض وللمناقشة والحوار حتى لو كانت هناك قضايا خلافية عميقة مثل فضائح الفساد والرشوة المتورط فيها رموز من العدالة والتنمية في تركيا، أو القوانين السالبة للحريات، أو انتهاك الحقوق أو حبس الصحفيين، أو التضييق من حرية التعبير، فضلا عن سوء الأداء الاقتصادي، لأن النظام الديمقراطي لو عمل بشكل سليم سيكون قادرا على تقديم حلول لكل هذه المشكلات.
وهنا، برز حزب الشعب الجمهوري، كطاقة أمل وحيدة لتركيا في هذه المرحلة المرتبكة، بإبدائه المرونة في مرحلة مفاوضات تشكيل الحكومة الائتلافية مع حزب العدالة والتنمية، ويخوض الحزب هذه المفاوضات على أساس أجندة تتكون من 14 مبدأ إذا قبلها العدالة والتنمية فلن تكون هناك مشكلة، لكن الحزب لم يصادر منذ البداية على الفكرة ولم يقدم نفسه كعقبة في طريق حل مشاكل تركيا، ليصبح هو الأمل في هذه المرحلة لإنقاذ تركيا من أوهام التوجه إلى نظام رئاسي سلطوي يكرس لتحكم فرد واحد في كل مجريات أمور الحكم في البلاد، ومن مرحلة ضبابية ستكلف تركيا الكثير، إذا فشلت جهود تشكيل حكومة ائتلافية تقودها حتى لو كان لفترة قد لا تتجاوز العامين كما يخطط البعض لذلك، لم يتحدث حزب الشعب الجمهوري عن انتخابات مبكرة لأنه يعلم مخاطرها على اقتصاد البلاد في المقام الأول، لكنه مع ذلك يمكن إذا جرت انتخابات مبكرة أن يرفع نسبته فيها من مقاعد البرلمان، لأنه أثبت أنه حزب يتفاعل مع خيارات الديمقراطية ويسعى للحلول بدلا عن تعقيد المشاكل.. وأن بإمكانه أن يكون أملا، ولو في مرحلة معينة، لخروج تركيا مما هي فيه الآن.