علي بولاج
إن القوى الداخلية والخارجية المعارضة لحزب العدالة والتنمية توجه انتقاداتها له من زاوية الإسلام السياسي.فالذي تفهمه القوى الخارجية من “الإسلام السياسي” هو التطرف والعنف والإرهاب، تلك الخصال التي تشير بها إلى صورة “الإسلاميين”. وانطلاقًا من هذه الرؤية يمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية تم وضعه في مرمى النيران باعتباره “حزب يميل إلى التطرف” على الأقل. وعلى الجانب الآخر، تزعم بعض القوى الداخلية أن العدالة والتنمية آل بتركيا إلى هذه الوضعية بسبب ممارسته للإسلام السياسي، وأن الإسلام السياسي أفلس في جميع الأمور بدءًا من شيوع النزعات الاستبدادية وصولًا إلى الفشل الذريع على صعيد السياسة الخارجية، فيما يقول البعض الآخر إن العدالة والتنمية قد قضى على الإسلام السياسي نفسه.
وثمة قضايا لطالما كنتُ أشير إليها في كل نقاش يدور حول الإسلام السياسي، يمكن ذكرها على النحو الآتي:
إن حزب العدالة والتنمية دخل المسرح السياسي بعدما أعلن أنه خلع عباءة “الرؤية القومية” أو ” ميللي جوروش” (الحركة الإسلامية السياسية التي كان يقودها رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان ) المقرب من السياسة الإسلاميّة وتنصل منها، وأنه ليس حزبًا إسلاميًّا، ولن ينتهج المرجعية الدينية في السياسات التي سيتبعها، مؤكدًا أنه يتبنى هويّة محافظة وديمقراطيّة. ومن أجل الحكم على أدبيات حزب ما، يلزم بالضرورة النظر إلى ثلاث نقاط. أولاها؛ الهوية السياسة والاسم الذي يتبناه الحزب، وثانيتها؛ الفلسفة السياسة أو المبدأ الذي يتخذه مرجعًا له، وآخرها؛ السياسات التي ينتهجها.
وانطلاقًا من هذه النقاط، يتضح لنا أن حزب العدالة والتنمية ليس حزبا إسلاميًّا ولا يتخذ الإسلام مرجعيّة في سياساته. ومن ثمّ فإن أولئك الذين يتعاطفون مع حزب العدالة والتنمية ويقرنون اسمه بـ “الإسلام السياسي”، فهم في حقيقة الأمر يظلمون كلا من الإسلام السياسي والحزب نفسه.
الجميع يعرف أن حزب العدالة والتنمية موجود في سُدة الحكم منذ نحو 13 عامًا؛ وهو الأمر الذي أفرز بالضرورة فئات تنتقده، أبرزها؛ العلمانيون ذووا الميول الغربيّة والليبراليون واليساريون والقوميون وبعض المنتسبين لجماعة النور والجماعات الإسلاميّة. وهذه المجموعات تعارض الإسلام السياسي منذ أمد بعيد في تركيا.
وفي واقع الأمر فإن انتقادات كل مجموعة من تلك المجموعات تستند إلى أسباب ودواع مختلفة؛ إذ ترى مجموعة العلمانيين ذات الميول الغربية أن العدالة والتنمية ينسلخ بتركيا عن الغرب وتقاليده، ويدمر مرحلة مفاوضات الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. فيما يرى الليبراليون أن الحزب لا يعمل بالقدر الكافي لتطبيق اقتصاد السوق إلى جانب تدهور علاقاته مع الغرب. فيما يذهب اليساريون إلى نقطة الدين ويقولون إنه يحد من الحريات التي ترتكز على الجسد. في حين يرى القوميون أنه يقترب بتركيا إلى إيران والدول العربية. بينما يرى الكماليون الأصوليون أن العدالة والتنمية يضر بتعاليم أتاتورك، وأنه يخدم مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يتم التخطيط له في منطقة الشرق الأوسط، أما منتسبو جماعة النور فيذهبون إلى أنه يمارس “الإسلام السياسي، وما إلى ذلك.
اتفقتُ في الرأي على نقطة ما في نهاية نقاش فكري أجريته مع الكاتب المخضرم البروفيسور ممتاز أر تُركونه، وهي أن حزب العدالة والتنمية ليس إسلاميًّا بل يضر بالإسلام السياسي. ويرى أر تُركونه أن الحزب قضى على الإسلام السياسي، لكنني رأيت أنه أوقف مسيرته وقطع الطريق أمام الجيل الثالث. إن علاقة العدالة والتنمية بالإسلام السياسي والوضعية التي آل إليها اليوم جديرة بالاهتمام أيضًا بالنسبة للقوى العالميّة التي أسقطت جماعة الإخوان المسلمين. وبما أنه ليس من الممكن القضاء على الإسلام السياسي بالانقلابات الدموية المستمرة، فهم يجبرون الجماعة على عمل إصلاحات بهدف جعلها في وضعية تتقبل وترحب بالافتراضات الأساسيّة للنظام. وتم اختيار إخوان الأردن كعنصر تجريبي. وحسبما هو مخطط له؛ ستضفي “مبادرة زمزم” المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين، الطابع الليبرالي على الجماعة في زعمهم بدعم من إسلاميي الدولة، وستجعلها متصالحة مع الدولة، وستقطع علاقتها مع الإخوان وتجعلها قومية. وإذا أبلى المشروع بلاءً حسنًا في الأردن وأثمر عن نتائج ملموسة سيتم تنفيذه في مناطق آخرى.
إن حزب العدالة والتنمية ليس هو في صلب قضية الإسلام السياسي؛ بل يمكن توصيفه على أنه “محطة” مر عليها الإسلام السياسي في تاريخنا السياسي الحديث، وهو بمثابة “فاصلة” في مسيرتنا التاريخيّة. فالحزب بذاته، وساسة الحزب، ومناصريه موجودين اليوم، إلا أنهم زائلون ولن يدوم بقاءهم. ونحن كذلك زائلون، لكن الدين الإسلامي والإسلام السياسي سيكونان موجودين إلى أبد الآبدين. إن هذه المنطقة لا يمكن لها أن تخرج من الفوضى والاضطرابات التي تعصف بها حاليًا باللجوء والفرار إلى عطف وشفقة الغرب والمبادئ السياسية والإدارية التي ولدت ونشأت من تاريخه. ذلك أن القاسم المشترك للمنطقة هو الإسلام؛ الذي يمتلك ميزة تقديم نموذج لغير المسلمين أيضًا في العيش بشرفهم وإمكانية التعايش سويًا كمجتمعات حرّة.
ولاشك في أن أخطاء حزب العدالة والتنمية تحجمه وتكبله، كما أنها على درجة كبيرة من الأهمية من ناحية التعرف عليها. والشيء المهم لهذه الدرجة هو وضع الحزب تحت مجهر الانتقادات العميقة النابعة من حسن نية، وهو الأمر الذي يقتضي الفصل بين الانتقادات التي توجهها المجموعات التي ذكرتها في معرض المقال إلى هذا الحزب والانتقادات التي يوجهها الإسلاميون. على أن كاتب هذه السطور ينتقد من الأساس حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى سُدة الحكم وإن كان يدعمه في بعض الحالات التي تستوجب ذلك حسبما تقتضي طبيعة الأمور والأصول. ومن ثم ينبغي فصل هذه الانتقادات عن انتقادات العلمانيين ذوي الميول الغربيّة أو اليساريين أو القوميين أو الليبراليين أو بعض المعارضين من جماعة النور. إن ما أتفهمه من الإسلام السياسي هو أنه قضية ورؤية فكرية واجتماعية وسياسية تستند إلى الحرية والأخلاق والعدالة، وتستمد مرجعيتها من القرآن والسنة والتجارب التاريخية والاحتياجات الفعلية والضرورية لعالمنا الحاضر، ومن الخبرات المعروفة التي يطورها بني البشر.
ثمة مشكلات عميقة للإسلام السياسي، لذا فنحن مضطرون إلى الوقوف على أسباب هذه المشكلات وسبر أغوارها قبل الانسياق إلى المجادلات والمهاترات الراهنة…