ممتاز أر توركونه
إن قضية العمالة للمخابرات التركية التي انغرست كالسكين في النقاش الدائر حول الإسلام السياسي ليست عبارة عن مؤامرة أو مكيدة. فإن ما كشف عنه الكاتب الإسلامي علي بولاج تفاصيل أساسية تلقي الضوء على أيامنا هذه.
قبل كل شيء، فإن مهمة العمالة والتجسس التي تعرض على شخص إسلامي (علي بولاج) لا تستهدف “الإسلاميين” أو “الجماعات الإسلامية”، بل تستهدف جماعة النور. ذلك أن علي بولاج يؤكّد أنه تلقى عرضاً ليتجسّس على أتباع جماعة النور، لا على الإسلاميين.
وكما هو معلوم عند الجميع، فإن جماعة النور أو حركة رسائل النور كانت بالأمس حركة سلمية لا تخرج عن إطار القانون، تماماً مثل حركة الخدمة اليوم. وبعبارة العلامة بديع الزمان سعيد النورسي، صاحب مؤلفات رسائل النور، فإنها كانت تتبنى “الحركة الإيجابية البناءة” منهجاً لها.
فما كان سبب عداء “أصحاب الدولة” آنذاك لهذه الحركة التي تبدي حرصاً خاصاً للبقاء خارج السياسة؟
ولماذا لم يكن هذا العداء موجهاً ضد “الإسلاميين” الذين أعلنوا الحرب بصورة علنية على العلمانية وكانوا يسعون إلى “تأسيس نظام دولة يقوم على أسس الشريعة”؟
لاشكّ في أن إجابة هذا السؤال ستفسّر سبب البارانويا المسمى بـ”الكيان الموازي” السخيف في هذه الأيام أيضاً. فأصحاب السلطة والنفوذ لا يخافون من التيارات السياسية التي يتسللون إليها ويوجّهونها بسهولة، وإنما يخافون دوْماً من الحركات المدنية التي تنخرط في المجتمع وتكتسب ثقته.
كانت قصص العمالة تلقى رواجاً واسعاً خلال سنوات الحرب الباردة. فإذا ما أردتم ربط مستقبل بلد بالمؤامرات والمكائد السياسية والأطماع الشخصية بدلاً عن المقوّمات الاجتماعية، فإن سيناريوهات وأساطير العمالة والتجسس كانت جاهزة فوراً لإمدادكم وإسعافكم في هذا الصدد. وكانت القطارات المحمّلة بأقاويل أجهزة المخابرات والمحافل الماسونية السرية وغيرها توضع على سكك الحديد بشكل متقابل ليوجّهها سائقوها والعملاء المحرضون حتى تصطدم مع بعضها البعض وتنفجر، ومن ثم تأتي مرحلة توظيف ذلك في توجيه السياسة وتحقيق المصالح.
إن المقال الذي كتبه مؤخراً ويسال أيهان لتحليل مواقف المخابرات التركية ونشرته جريدة” زمان” التركية يفجّر بضربة واحدة الكثير من البالونات المنفوخة في هذا المضمار. فهذا الجهاز العملاق تم تخصيصه لخدمة رجل واحد فقط هو أردوغان، مثل جهاز المخابرات التابع لبطرس الأكبر أو بيتر العظيم قيصر روسيا الخامس.
المعيار الذي اعتمده في هذا الشأن بسيط جدا. فالتسجيلات المرئية والمسموعة التي عرضها ويسال أيهان في مقاله المذكور، إما أن تكون قد سُرّبت ونُشرت عن طريق المخابرات ذاتها، أو أن هذه المخابرات فاشلة إلى درجة أنها لا تستطيع الكشف عن عمليات التنصت والتسريب هذه التي جرت في الداخل التركي. وفي كلتا الحالتين، فإن ذلك يعني أن هذا الجهاز يُلحق ضرراً بتركيا بدلاً عن جلب النفع لها. فلو ألغينا وأغلقنا هذا الجهاز فهل تحدث أية زعزعة أمنية في بلدنا أم ستزداد ثقتكم بدولتكم وقانونكم أكثر؟
وظاهرٌ أن جهاز المخابرات تحول إلى سوق خاص يسعى لتحقيق مكاسب وتصفية حسابات شخصية تحت درع السرية. ودليل ذلك يكمن في ثنايا هذه القصة التي نحن بصددها. لقد فهمنا في ضوء المعلومات الجديدة أن إسلامية حزب العدالة والتنمية مرتبطة بنوع فريد جداً من التنظيم الذي كانت له في السابق علاقات مشبوهة مع الدولة. ما يعني أن حقول هذا البلد كانت محروثة ومزروعة منذ البداية، وكان أصحابها هم من يجمعون حصادَها على مدار سنين ويمهّدون الطريق لبعض الشخصيات ليرتقوا نحو أعالي هرم الدولة. لذلك أعتقد أن السبب الكامن وراء سؤال: “كيف تعارضون الدولة؟” الذي نسمعه من أشخاص نعرفهم بصفتهم إسلاميين معارضين للدولة بات واضحاً للجميع بعد هذه المعلومات.
ولا يمكن لكم أن تفهموا أبعاد مقولة “الكيان الموازي دبّر مؤامرة ضد الجيش الوطني”، التي اخترعها يالتشين أكدوغان كبير مستشاري أردوغان سابقاً ونائب رئيس الوزراء حالياً، بعد بدء تحقيقات الفساد في 17-25 ديسمبر/ كانون الأول 2013، في إشارة منه إلى أن حركة الخدمة حاكت مؤامرة ضد الجيش عبر فتح قضية تنظيم “أرجنيكون” المعروف في تركيا بأنه “الدولة العميقة”، إلا بعد سبر أغوار تلك العلاقات المشبوهة التي تمتد لماضٍ طويل.
إنني أتراجع عن زعمي بأن الإسلاميين باتوا “إسلاميي الدولة” بعدما توصلوا إلى السلطة، ذلك أنه تبيّن أنهم كانوا يزاولون مهامهم وأنشطتهم تحت مظلّة الدولة وأوامرها منذ البداية. أما الإسلاميون الحقيقيون الذين يشيد بهم علي بولاج ويصفهم بـ”الجيل الثالث” فيبدو أنهم لم يتمكنوا من اختراق جدار الدولة هذا ليكون لهم دور بارز في السياسة.
لذلك يتحتّم علينا أن نعيد النظر في كثير من الأحداث الغريبة في تركيا من هذه الزاوية. فالإسلاميون الذين صنعتهم الدولة في سبعينيات القرن الماضي كانوا يبدأون التدريب لديها باعتبارهم “عناصر يجمعون الأخبار”. ثم بعد ذلك حميت العلاقات بين الطرفين، وبادرت هذه العناصر مع مرور الزمن إلى انتهاز كل الفرص المتاحة لهم، ليشكّلوا جسراً بين الدولة وكادرها القيادي من جانب، ومن جانب آخر يتغلغلون في أعماق “النواة الصلبة لحزب العدالة والتنمية”. ومن ثم يسخّرون كل إمكانيات الدولة لإعلانِ وشنّ الحرب على المجتمع المدني كما فعلوا ذلك مع حركة رسائل النور في الماضي.
فمن هم هؤلاء يا ترى؟ إنهم معروفون وستنكشف أسماؤهم قريبا.