إسماعيل حكيم أوغلو
أخبرنا الله سبحانه وتعالى بكل شيء نافع وضار في القرآن الكريم، لكن حتى ندرك فائدة شيء ما يجب علينا أولًا أن نعرف قيمته ونقدر حق قدره. وإذا أخذنا مثالًا على هذه الحالة، فلا يعرف قيمة المعدن سوى الخبير في المعادن، فيأخذ ما هو نفيس وغال منه ويدع الردئ.
لقد وهب الله الإنسان حب الاستطلاع ليبحث عما يلزمه حتى يجده. كما أن ساعة الإجابة في يوم الجمعة وأولياء الله بين الناس واسم الله الأعظم بين أسمائه الحسنى وليلة القدر في شهر رمضان كلها أشياء مخفية؛ إذ أُمرنا بأن نبحث عنها لنجدها! لكن الإنسان ينشغل بكل شيء دون أن يفكر دائما إن كان هو بحاجة إليه أم لا، وينحرف بسبب هذا الانشغال أحيانًا عن الطريق المستقيم ليقع في الغفلة.
استأجرت منزلًا في خمسينيات القرن الماضي، فرأيت به صفحات من القرآن الكريم متفرقة وملقاة على الأرض فجمعتها على الفور، وسألت صاحبة المنزل: “من صاحب هذا الكتاب؟”، فردت قائلة: “ومن أين لي أن أعرف؟ نحن لا نستطيع قراءته، فتفسخت صفحاته وتناثرت بهذه الطريقة”، فقلت لها: “هذا هو القرآن الكريم، سأحضر لكِ نسخة جديدة مجلدة منه، فأعطيني هذه النسخة”. ذهبت واشتريت نسخة جديدة من المصحف وأعطيتها إلى صاحبة المنزل. هل تتخيلون أننا أمام أُسرة عاشت لسنوات في ذلك المنزل وهي لا تدري أن الكتاب الملقى على الأرض هو القرآن الكريم.
إن القرآن الكريم هو كتاب دعاء وعبادة وذِكر، وكتاب فكر في الوقت نفسه. وقد غيَّر القرآن حياة أكثر الأقوام بداوة وأثّر في حياة الأمم والدول وارتقى بها، وهو الكتاب الوحيد الذي يستفيد منه العالم والجاهل. ولقد بدأ نزول هذا القرآن الكريم في ليلة القدر، ولهذا السبب فإن هذه الليلة كمعدن الذهب، من يعرف قدرها يرتقي قدره.
إن الإنسان ليس عبارة عن لحم ودم وعظام، فكما أننا ننظف أجسادنا بالماء والصابون، فعلينا أن ننظف عقولنا وقلوبنا وأرواحنا ومشاعرنا ومخيلاتنا وحبنا في الاستطلاع وحسّنا في الحب والكراهية. وإن التوبة هي طريق تنظيف جوانبنا المعنوية هذه التي نلوثها بالذنوب التي نرتكبها عمدا أو من غير قصد منا.
يروى أن الله ينادي عباده في ليلة القدر قائلا: “هل من راغب في دخول الجنة؟ وهل من تائب فأتوب عليه”، ويعلن العفو العام. فلو أصدرت الحكومة عفوًا عامًا وقالت: “من يريد الاستفادة من هذا القرار فليتقدم بطلب إلى والي المدينة التي يعيشه بها”، فبطبيعة الحال فإن كل سجين يريد الخروج من السجن سيتقدم بطلب إلى الوالي ليطلق سراحه.
ربما يكون بعض الناس قد ابتعدوا عن العبادات، وسقطوا في مستنقع الذنوب والخطايا. ولكن بدءهم للعبادة وتوبتهم في مثل هذه الليالي يعني خلاصهم من هذا المستنقع. ومن يسقط فريسة في مخالب المحرمات يتوب أيضا وينجو. وكأنني أرى في ليلة القدر لافتة مكتوبا عليها “ليأتِ التائبون إلى الصراط المستقيم!”، لأن الصراط المستقيم هو الطريق الوحيد الذي يوصّل سالكه إلى الجنة.
ولهذا فإن أهم شيء يجب على المسلم فعله في ليلة القدر هو “التوبة توبة نصوحا”، وهي تعني أن يعاهد الواحد منا ربه عهدا صادقًا بأنه لن يرتكب الذنوب متعمدًا وأنه سيواصل أداء العبادات على أكمل وجه.
ومن يتوب حقًا في تلك الليلة ويقرر ترك الذنوب فعلًا يبدأ حياة جديدة تماما في اليوم التالي.
ولذلك ينبغي لنا أن نمسك بقلم ودفتر ونفتح به صفحة عنوانها “ذنوبي وأخطائي!” لنكتب بها أخطاءنا ونواقصنا، وبعد ذلك نشرع في التفكير حتى نقرر عن أي منها نتوب أولًا. فعلى سبيل المثال إذا قرر أحدنا أنه لن يغتاب أحدًا بعد اليوم أو أنه سيقرأ تفسير القرآن الكريم يكون بذلك قد أحيا ليلة القدر على أكمل وجه.
أو إن قال أحد الشباب في نفسه: “لن أرافق أصدقاء السوء ثانية، وسأبدأ بالمواظبة على أداء الصلاة”، يكون بذلك قد أحيا ليلة القدر، ويبدأ يومه التالي كإنسان جديد تمامًا. وبهذه الطريقة تكون ليلة القدر ليلة اتخاذ القرارات الحاسمة، وهذه الليالي فرصة كبيرة حتى يبدأ الإنسان حياته من جديد.
يهرع من يسقط في مياه البحر إلى الإمساك بطوق النجاة حتى لا يغرق… وكذلك من يغوص في مستنقع الذنوب ويقصر في أداء العبادات ويشعر بالندم جرَّاء ما اقترفته يداه، يتمسك بليلة القدر ويحييها لكي ينجو…
ولهذا السبب لا يمكن إحياء هذه الليلة المباركة عن طريق أكل قطع من السميط (الكعك) التي تصنع خصيصا لتلك الليلة؛ إذ علينا أن نملأ دلاءنا بالرحمة المنهمرة لنكون قد فررنا من الباطل وأحيينا الليلة التي منّ الله بها علينا.
جريدة زمان 11/7/2015