علي بولاج
صمَّم السلطان العثماني الشهير محمد الفاتح إمبراطورية على أساس مختلَط بين نظام السياسة البيزنطية وحق السيف العربي ومراسم الدولة الهندية – المغولية وقوانين جنكيز خان – بعد أن انفصل بشكل نهائي عن أسلوب حكم مختلَط بين ما هو تركي وعربي – إسلامي. ولقد واصلت الدولة الحفاظ على كيانها وفق هذا التقليد حتى عهد التنظيمات.
كانت الهزائم التي تعرضت لها الدولة العثمانية في أوروبا والبلقان أدت إلى انقطاع بالدولة. وفي ظل هذه الوضعية الجديدة كان يُخطّط للحيلولة دون فقدان أراضي دار الإسلام التي هي وطن المسلمين. ولتحقيق هذه الغاية كانت ثمة حاجة لإعادة تشكيل جهاز الدولة.
سبب مركزية “السياسية والدولة” في نضال الأجيال الثلاثة من الإسلاميين هو ربط حركات الإصلاح بالدولة. فالجيل الأول كان يريد إنقاذ الدولة، فيما رغب الجيل الثاني في تأسيس دولة جديدة. والأخطاء التي ارتكبتها الأجيال الثلاثة من الإسلاميين في تعاملهم مع الدولة تشبه الأخطاء التي وقع فيها النصارى في غضون نضالهم ضد دولة روما الظالمة التي قاوموها رغم أنها كانت تلقيهم أمام الأسود الوحشية لتقطع أجسامهم، إلا أنهم خلال 300 عام من نضالهم ضدها بدؤوا يضخّمون روما في أذهانهم دون أن يشعروا حتى نصّروها (أي جعلوها نصرانية). وعندما انهارت روما عام 476 أُسست الفاتيكان مكانها، ولم تكن هي في الواقع سوى روما التي تمّ تنصيرها. وأما الدولة القومية الحديثة التي ظهرت على ساحة التاريخ مع الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 فهي “روما الدينية” بعد عَلْمَنتها، أي إضفاء الصبغة العلمانية عليها. ولننتقل الآن للحديث عن سؤال الزميل الصحفي ممتاز أر تركونه:
- لقد سعى الجيل الأول من الإسلاميين، وفي طليعتهم جمال الدين الأفغاني وغيره من أقرانه، لتكييف مصطلح الدولة القومية الحديثة مع الإسلام، وحملوها مهمة “المهدي المنتظر”. لكن الإسلاميين لم يُخضعوا بسبب هذه الخلفية الذهنية الدولة لأية عملية نقد ومحاسبة في أي وقت من الأوقات، بل اعتقدوا أن الدولة إذا ما انتقلت إلى سلطة شخص متدين فإن كل شيء سيتحسن تلقائياً. كانت “الشريعة ستأتي والهمجية ستنتهي”، بيد أن الشريعة لا تضفي شرعية على هذه الدولة. فالمسلمون الذين اختزلوا “الدين في الديانة الرسمية” ارتكبوا فظائع باسم الشريعة عبر آلة الدولة الحديثة.
- إن الذين هرعوا إلى قاطرة هذه السلطة الجائرة وركبوها لما فازوا في الانتخابات المحلية عام 1994 والانتخابات البرلمانية عام 2002، قالوا إن “إسلامويتنا كانت مثالية، أما حقائق العالم فمختلفة تمامًا”، بواقع خوائهم الفكري والمعنوي، فألقوا بأنفسهم في أيدي هذا الطاغوت والوحش الكاسر (الوياثان). وكانت الجماعات والطرق الصوفية غير مجهزة كذلك مثلهم وكانت تعاني الخواء الفكري والمعنوي نفسه، فرافقوهم في هذا الدرب بشهيّة كبيرة. فكم عدد الأشخاص الذين استطاعوا أن يقولوا ذلك اليوم “على مهلكم أيها الجماهير المتدينون، إن هذا الشارع مسدود!”؟
- إن الذين لم تسنح لهم الفرصة لممارسة العمل السياسي ضمن صفوف الأحزاب المركزية اليمينية واليسارية انضموا إلى تيار الإسلام السياسي ودخلوا في سباق من أجل السلطة. وحين تمكنوا أخيراً من الوصول إلى السلطة على مستوى البلديات وعموم البلاد تحققت أهدافهم، حيث كانت نيتهم وهمتهم مقصورة على السلطة فقط. وهؤلاء كانوا يشكلون فئة المنافقين من الإسلاميين. فهؤلاء الطموحون غير المؤهلين، الذين لم يكن لسياسيين أمثال سليمان ديميرل اليميني وبولنت أجاويد اليساري أن يسمحوا لهم بالدخول حتى من أبواب أحزابهم، ارتدوا زي “الإسلاميين” أولًا ثم “المتدينين المحافظين” حتى وصلوا إلى أعلى مناصب الدولة.
- بالرغم من أن بعض الإسلاميين من أصحاب النوايا الحسنة قد سلّموا بأن هذه السلطة ليست سلطة إسلامية، إلا أنهم ذهبوا إلى أنه يجب أولاً الوصول إلى هذه السلطة الراهنة التي لها واقعها الخاص من أجل الانتقال إلى المثالية، معتقدين بإمكانية الوصول إلى هذه السلطة المثالية بعد جمع القوة اللازمة وتهيؤ الظروف المواتية في ظلّ هذه الحكومة. وقد أجازوا انطلاقاً من هذه الملاحظات تشكيل “نظام صندوق مالي” لجمع أموال من الشركات المشاركة في المناقصات والعطاءات الحكومية بصورة غير منصوص عليها في القانون، كما سوّغوا ممارسات الفساد والرشوة. لكن من حفروا الحفرة هم من وقعوا فيها.
- لا تتغير جيناتنا السياسية بسهولة تحت التأثير العميق لإرثنا التاريخي. فبحسب فكرة “الدين والدولة” فإن الأيديولوجية المؤسسة للدولة هي “الدين”؛ إذ تستمد الدولة شرعيتها من تمجيدها للدين. إلا أن الدين لا يمكنه أن يحافظ على كيانه إلا بوجود الدولة، فإذا ضاعت الدولة ضاع معها الدين. ولا يسمح بحضور “الدين المدني” إلا إذا كان امتداداً للدولة وعميلَها وشريكها الضمني في المجتمع. تذكروا ما قاله نائب رئيس الوزراء التركي بولنت آرينتش للجماعات الدينية في قمة تواضعه (!) الذي سيطر عليه: “إن وجودكم مرتبط بوجودنا، فمن دوننا أنتم لا شيء”. وكانت توركان سايلان قد قالت النسخة العلمانية لهذه العبارة إذ قالت: “نحن النبلاء والأصلاء، فلا يمكن أن يحدث في هذا البلد شيء لا نريد حدوثه”.
عندما تتعرّض السلطة لضعف تبادر إلى استغلال الطاقة التي ظلت في الخارج لمدة طويلة، إذ ترسخ لديها شعور ووهم بأنها أصبحت صاحب الدولة، وهي بدورها تبدأ في أن تظن نفسها كذلك. لكن السلطة عندما تنتهي من توظيف هذه الطاقة، سواء كانت علمانية أو إسلامية، في ترميم ضعفها واستعادة قوتها السابقة، تنحي الدولة جانباً وتتركها وشأنها. وعندما صار الإسلاميون القدامى الذين لا يعرفون الجذور والجينات التاريخية لهذه الدولة وجهًا لوجه مع “الدين والدولة” رجحوا الدولة على الدين، لأنه إذا ما تمّ الحفاظ على قوة الدولة فإن الدين كذلك سيُحفظ، على حد زعمهم وظنّهم.
إن إقرار مادتي القرآن الكريم والسيرة النبوية في المدارس التركية ونشر مدارس الأئمة والخطباء من خلال مشروع “الجيل المتدين” ما هو إلا رشوة من الدولة “الحكيمة” لضابطها الجديد.
لقد تحولت أشجار الصنوبر القديمة إلى أكواب، ولم يغِب الإسلاميون القدامى عن الساحة بل أصبحوا محافظين – قوميين يقدسون الدولة.