بقلم: ياوز أجار
لا يغادر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ عامين واردة ولا شاردة إلا ويأتي بها لملء الفراغ الكبير في زعمه القائل بأن هناك “كياناً موزاياً” تسلل أعضاؤه في أعماق الدولة، وحاول في السابع وعشر من ديسمبر/ كانون الأول لعام 2013 القيام بانقلاب في البلاد والإطاحة بحكومته، عبر توظيف تحقيقات الفساد والرشوة المعروفة. ومع أن أردوغان استطاع “تسويق” زعمه هذا في الداخل لعدد قليل من مؤيديه فقط، إلا أنه لم يجد آذانا صاغية له لدى الأوساط المعارضة والمحايدة في البلاد والمحافل الدولية في العالم.
القضاء التركي ينسف مزاعم الكيان الموازي نسفاً
والمزاعم الواردة حول العثور على أجهزة تنصّت في مكتب أردوغان عام 2011، أي قبل عامين من بدء تحقيقات الفساد عام 2013، كانت من أهمّ الأدوات التي استخدمها أردوغان وأعوانه لتجسيد وترسيخ فكرة “الكيان الموازي” الوهمية في أذهان الرأي العام. حيث فتح المدعي العام، بأمر صادر عن أردوغان، تحقيقاً حولها، عقب بدء تحقيقات الفساد، بعد انتظار مدة عامين دون إجراء أي تحقيق. ومن ثم أخذ أردوغان يصف عبر وسائل إعلام تابعة له قضية العثور على أجهزة التنصت في مكتبه (قضية الحشرات الجاسوسة) بأنها تتعلق بـ”الكيان الموازي”، ويقدّمها للشارع على أنها الدليل الأبرز على محاولة هذا الكيان الانقلاب ضده وحكومته.
ولكي نعرف حجم الدعاية السوداء التي قادتها بعد فتح التحقيق وسائلُ الإعلام التي يسيطر عليها أردوغان، يكفي أن نتذكّر بعض عناوين الصحف الصادرة آنذاك:
جريدة ستار: “عملية ضد منظمة الكيان الموازي في خمس ولايات… مداهمة مواقع الحشرات الخونة بتهمة التجسّس… أكبر عملية ضد التجسس في التاريخ…”
جريدة يني عقد: “توقيف 11 شخصاً في إطار عملية ضد منظمة الكيان الموازي في خمس مدن.. مداهمة مواقع الجواسيس الذين تمكّنوا من التسلّل إلى أقرب مكان لرئيس الوزراء.”
جريدة أكشام: “الحشرات الجاسوسة… عملية ضد عصابة زرعت أجهزة تنصت في سيارة أردوغان ومكتبه ونشرت تسجيلات سرية له.. توقيف 11 شخصاً بينهم زكي بولوت المدير العام السابق لحرس أردوغان.”
جريدة تقويم: “سيد الحشرات… ظهر أن الذين تنصتوا على أردوغان هم حرسه المقربون منه، وتبين أن الحشرات الجاسوسة تابعة للكيان الموازي.”
أما أردوغان فكان ربط مباشرة قبل صدور الحكم القضائي “عصابة التجسس” بـ”بنسلفانيا” حيث يقيم فيها الأستاذ فتح الله كولن الذي يتهمه بتزعم الكيان الموازي. إذ قال في تصريحات له “إن قضية تسلّل أعضاء هذا الكيان الموازي إلى الدولة باتت الآن أمام القضاء.. لا أشكّ في أن هناك روابط وعلاقات بينه وبين بنسلفانيا.” (جريدة ستار، 20 نوفمبر 2014).
وبعد اعتقال مجموعة من القيادات الأمنية والحرس الخاص بأردوغان في إطار هذه القضية، تم اتهام “حسن بالاز” نائب الرئيس السابق لهيئة الأبحاث العلمية والتكنولوجية التركية توبيتاك (TÜBİTAK) بعد رفضه إعداد “تقارير مزيفة” لإدانة مسؤولي الأمن الأبرياء بشأن أجهزة التنصت، ومن ثم تم إيداعه السجن. لكنّ جريدة صباح الموالية لأردوغان قلّبت الحقيقة وعكست الأمر وزعمت أن بالاز اعتقل بسبب إعداده تقريراً مزوّراً عن الحادثة. وكتبت أن “حسن بالاز، رجل السرّ التابع للكيان الموازي، افتضح أمره عندما أعد تقريراً مزوّراً بخصوص التنصت على أردوغان.” (صباح 31 مارس 2015)
وقد ألف السيد بالاز كتاباً بعنوان “أيتها الحشرة لقد أكلت عمري!” ليفنّد كل المزاعم والاتهامات الموجهة إليه في إطار قضية التنصت على أردوغان.
وتعاقبت الأيام ودارت عقارب الساعة ليجيء الحق ويزهق الباطل؛ إذ أصدرت المحكمة التركية قبل أيام عدة قرارًا بتبرئة ساحة ثمانية أشخاص من المتهمين في قضية العثور على أجهزة تنصت في مكتب أردوغان، وعلى رأسهم السيد بالاز ورئيس الحرس الخاص بأردوغان “زكي بولوت”. بينما أصدرت قرارًا باعتقال اثنين آخرين، لكن ليس بتهمة التجسّس، وإنما بتهمة الكشف عن وثائق سرية.
أجهزة التنصت على أردوغان من ضراب “الإيراني”
والمثير أن هيئة المحكمة التي نظرت القضية التي استمرت 8 جلسات لم تتطرق خلالها ولو لمرة واحدة لادعاءات الكيان الموازي المزعوم، كما لم يتحدث أحد من أعضائها عن أي محاولات انقلاب أو حتى الانتماء لأي تنظيم أو جماعة، الأمر الذي يعني انهيار كل مزاعم أردوغان حول تنصت ما سماه الكيان الموازي عليه.
والأكثر إثارة من ذلك أنه ظهرت تفاصيل عجيبة مع صدور حكم البراءة تسلّط الضوء على حقيقة التنصت على أردوغان وتكشف عن المؤامرة الحقيقية. إذ تبيّن أن رجل الأعمال الإيراني ذا الجنسية التركية رضا ضراب، المتهم “رقم واحد” في قضية الفساد والرشوة هو أحد شركاء الشركة التي وفّرت أجهزة التنصت التي عثر عليها في مكتب أردوغان!
ما هو مصير الجواسيس الإيرانيين في تركيا؟
وفي هذه النقطة بالضبط يجب علينا أن نعود إلى تاريخ 17 سبتمبر / أيلول من عام 2013، أي قبل ثلاثة أشهر من ظهور فضائح الفساد والرشوة في 17 ديسمبر/ كانون الأول من العام ذاته، وقبل أي ذكر أو حديث عن الكيان الموازي! إذ كانت صحيفة “تركيا” الموالية لأردوغان نشرت خبراً قالت فيه: “عقب العثور على أجهزة تنصّت في مكتب أردوغان العام المنصرم، عثرت القوات الأمنية هذه المرة على أجهزة تنصت مختلفة مخبأة في غرف مقرّ رئاسة المغتربين الأتراك التابعة لرئاسة الوزراء، قبل نحو 8 أشهر. وبعد متابعة أمنية دقيقة، توصّل الأمن إلى أن امرأتين تدعى “فاطمة..” و”عزيمة..”، تعملان لصالح المخابرات الإيرانية، وشاركتا في تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001، وتقدّمان اليوم دعمهما لسياسات الحزب من الخارج، هما اللتان وضعتا أجهزة التنصت في غرف مختلفة من مقرّ رئاسة المغتربين. كما تبيّن أنهما وضعتا أيضًا أجهزة تنصّت في إحدى الدوائر التابعة لرئاسة الوزراء وكذلك في “فيلا” يملكها شخص له صلة بحزب العدالة والتنمية، فضلاً عن ذلك فإنهما بادرتا للتنصّت على أحد الوزراء أيضًا.”
“في أعقاب ذلك، فتحت النيابة العامة في أنقرة تحقيقًا قضائيًّا حول المرأتين اللتين تسلّلتا إلى صفوف حزب العدالة والتنمية، وبدأتا تجمعان معلومات استخباراتية عن طرق غير قانونية وعبر أجهزة تنصّت، وأمرت أجهزةَ الأمن بإجراء تحقيق شامل حول سيرتهما الماضية وصِلاتهما وعلاقاتهما. فراجعت القوات الأمنية المكالمات الهاتفية السابقة للمرأتين، فكشفت أنهما تجريان اتصالات بشكل منتظم مع مواطن يحمل الجنسية الإيرانية، وتلتقيان معه بين الفينة والأخرى، لتبادل المعلومات المتحصلة لديهم. وبعد ذلك كثفّت جهودها للوصول إلى هذا المواطن الإيراني للكشف عن كافة ملابسات جريمة التنصّت والتجسّس. وخلصت السلطات الأمنية، استنادًا إلى تلك المعلومات والتقارير، إلى أن العملاء الإيرانيين يحاولون عن طريق هذه النشاطات غير القانونية محاصرة العدالة والتنمية وتوجيهه وفق الأهداف الإيرانية.”
صحيفة تركيا الموالية لأردوغان نشرت في ذلك الوقت أخباراً تفصيلية عن هذه الحادثة على مدار ثلاثة أيام متتالية. لكن أردوغان ومسؤولو الحكومة آنذاك لم يعيروا اهتماماً لذلك وأغلقوا الموضوع. تماماً مثلما أغلقوا قضية تنظيم السلام والتوحيد الإرهابي التابع لجيش القدس الإيراني أيضاً، وذلك مع أن ثلاث محاكم عليا في تركيا – وليس أي محكمة عادية – أصدرت “ثلاثة قرارات حتمية” في أزمنة مختلفة (2002 و2006 و2014) بأنه منظمة إرهابية تزاول أنشطة مخابراتية وتجسسية لصالح إيران، وأن رئاسة شعبة مكافحة الإرهاب أدرجت اسم هذه المنظمة في المرتبة الحادية عشرة في قائمة المنظمات الإرهابية الناشطة في البلاد. فضلاً عن أن هناك قرارات قضائية تثبت أن هذه المنظمة هي التي تقف وراء العديد من عمليات اغتيال كثير من الشخصيات السياسية والفكرية والإعلامية الشهيرة في تركيا، وأن “الوسطاء” أو “العملاء” الذين استخدمتهم هذه المنظمة في تنفيذ العمليات لا يزالون حالياً (2015) قابعين في السجون. وقد ذكرت تقارير صحفية أن مجموعة من الجواسيس الإيرانين المعتقلين في إطار هذه القضية وغير المعتقلين تمكّنوا من الفرار إلى بلدهم إيران وأذربيجان “بشكل عجيب” بعد إغلاق السلطات التركية ملفات تنظيم “السلام والتوحيد” مع ملفات الفساد والرشوة في أوائل العام الماضي.
الحشرات الإيرانية أم التركية تنصّتت على أردوغان؟
إذن ألا يحقّ لنا أن نسأل ونحن نعلم أن عديداً من الدول الأجنبية – مثل ألمانيا وأمريكا باعترافهما – تنصّتت على أردوغان: من الذين تنصتوا على أردوغان واطلعوا على عوراته وسوءاته، ثم بدؤوا يستخدمون ذلك كعامل ابتزاز وورقة ضغط ليستفزّه ضد حركة الخدمة؟ أهم قيادات الأمن التركي أم الحشرات الإيرانية؟!
هناك سؤلان يثيران فضولي منذ زمن بعيد، الأول: لماذا يتجنّب الرئيس أردوغان ومسؤولو حكومة العدالة والتنمية إرسال ملفات القادة العسكريين الإسرائيليين المتورطين في مقتل أتراك كانوا على متن سفينة مافي مرمرة إلى الشرطة الدولية (إنتربول) على الرغم من مطالبة المحكمة التركية بذلك، ومع أن هذه القضية بالنسبة لهم قضية حياة أو موت؟!
أما الثاني فهو: ما الذي يجبر أردوغان على الدفاع عن رجل الأعمال الإيراني رضا ضراب، مع أنه غارق في الفساد من رأسه إلى أخمص قدميه؟ ولماذا يضطرّ أردوغان للقول عنه بأنه “رجل أعمال محب للخير” وعن إيران بأنها “بيتي الثاني”، مع أنه يحارب ضد إيران في سوريا. وما الداعي لأن يتهم أردوغان إيران بـ”محاولة الهيمنة على الشرق الأوسط”، في إطار دعمه للعملية العسكرية التي تقودها السعودية ضد الحوثيين في اليمن، ثم يتراجعَ عن ذلك بعد يوم واحد من التصريح السابق ويؤكّدَ أنه “يشاطر الأفكار والرؤى ذاتها مع إيران تجاه قضايا المنطقة” أثناء لقاءه بكبار المسؤولين الإيرانيين في طهران؟
إذا استطعنا الحصول على أجوبة منطقية مقنعة لهذين السؤالين فعندها فقط يمكن أن نحدد من يقف وراء عمليات التنصت على أردوغان أهم الحشرات الأجنبية أم التركية!