جوكهان باجيك
كانت السياسة الخارجية التي ينتهجها حزب العدالة والتنمية خلال الفترة المبكرة له في حكم تركيا واحدة من ألمع الأمثلة في تاريخ الجمهورية التركية. أما الوضعية التي أصبحت عليها اليوم فتعتبر “الأسوأ على الإطلاق”.
إن السياسة التي ينتهجها الحزب تجاه الوضع في سوريا ما هي إلا حالة من الإفلاس الكامل إذا ما استثنينا مسألة” دعم اللاجئين”. وإذا كان المفكرون الإسلاميون وقادة المخابرات والصحفيون الذين كانوا يقولون لسنوات طويلة على شاشات التليفزيونات “نعرف هذه المنطقة جيدًا”، يطرقون الآن “في نهاية الفيلم” باب الجيش ليقولوا “لم يعد هناك بُد من خوض الحرب” فهذا يعني أن ما بين أيدينا هو الإفلاس بعينه.
وكما أن البعض يستنكف الأمر عندما يقول فريق في السياسة الداخلية “أنقذونا يا عسكر”، ويعيب عليهم ذلك، يجب أن ننظر بالطريقة نفسها إلى من يستنجدون بالمؤسسة العسكرية نتيجة إفلاس سياستهم الخارجية المدنية.
لقد أصبحت المرحلة التي وصلت إليها السياسة الخارجية الإسلامية المعروفة بالأفكار النيّرة والشعارات المنجية هي رفع شعار دعوة الجيش لتولي المهمة.
ظنوا أنفسهم حكومة الأمة
أما خطأ الإسلاميين في السياسة الخارجية فهو أنهم أهملوا المبدأ البسيط الذي ينص على أن “السياسة الخارجية تدار للحفاظ على مصالح الدولة”.
كان القلب يتمنى أن تمارس دول العالم سياسة خارجية “إنسانية”، والدولُ الإسلامية لصالح “الأمة”، لكن لا توجد أرضية مواتية لهذا. وعليه، يجب علينا أن نمارس السياسة الخارجية وفق المصالح القومية “بالرغم من جميع اعتراضاتنا الفلسفية”.
فحتى إيران، التي شهدت أولى الثورات الإسلامية في العصر الحديث، تمارس سياستها الخارجية وفق مصالحها القومية؛ إذ لا يمكن لأية إستراتيجية سياسية خارجية أن تضر بالمصالح القومية. بيد أن الإسلاميين في تركيا لا يمارسون السياسة الخارجية استنادًا إلى مصالح بلدهم بل يمارسونها وفق “مرجعية أخرى مغلقة مجهولة الهوية”.
ولكي نكون أكثر صراحة: إن عبارات مثل “إن مكانة حلب بالنسبة لنا كمكانة إسطنبول” تعتبر من ناحية انضباط العلاقات الدولية المعاصرة مثل أن يخرج علينا عالم فيزياء ليقول إن “الأرض مستوية وليست كروية”. وما هذا النوع من العبارات، بالرغم من جاذبيتها الفكرية والوجدانية، سوى إهمال وتجاهل لـ”واقع السياسة الخارجية”، وليس لها أي مقابل في العالم الخارجي.
ولن يكون لدينا أية حيلة غير أن نقول “إسطنبول أولاً، فإذا بقيت لدينا قوة فسنهتمّ بأمر حلب أيضاً” طالما أننا نعيش في نظام الدولة القومية المعاصرة.
إن الإسلام السياسي في تركيا، كما هو الحال في مصر وعدد من الدول الأخرى، استسلم للوهم الذي يرى الحكومة المحلية ليست حكومة الدولة بل “حكومة الأمة بأكملها”.
الخيالية النابعة من الجهل بمنطقة الشرق الأوسط
لا يستطيع اليوم 40 شخصًا من تركيا أن يركبوا الحافلة ليذهبوا لأداء مناسك الحج برًا. وبينما الوضع كذلك ترى الإسلاميين يتحدثون عن “وحدة العالم الإسلامي”.
إن إستراتيجية كهذه تتطلب جهدًا يستمر لسنين طويلة، وتستلزم وتيرة من البنية التحتية والتكامل والتعليم تستمر لعشرات السنين. دعوكم من الشرق الأوسط، فإن اندماج بلد مثل البوسنة والهرسك، التي تعتبرها تركيا دولة قريبة منها، مع النمسا من الناحية الاقتصادية وسائر المجالات الأخرى أضعاف ما هو عليه مع تركيا.
لكن المشكلة ليست في الإسلام السياسي، فالمتدينون في تركيا يؤمنون منذ القدم بأنه “يجب أن تقود تركيا العالم الإسلامي” وأن “المسلمين ينتظرون هذه الخطوة بالفعل”. ويقول المسلمون كافة، وفق هذا “الخيال” “ماذا لو عاد الأتراك يومًا ليحكمونا من جديد”.
أما الحركة الإسلامية الثالثة فهي تجهل (إذا ما استثنينا بعض الشخصيات) العالم الإسلامي، على عكس ما هو معتقد، بقدر ما يجهله الكماليون على أقل تقدير. فالفارق بين الإسلاميين والكماليين في الشرق الأوسط ربما يكون أنهم أكثر تدينًا وأنهم يصلون ويقولون “السلام عليكم”.
يمكن أن ننتقد جهل الكماليين بالعالم الإسلامي، لكن ينبغي لنا ألا نستهين برباطة جأشهم، فهم على الأقل لم يحاولوا إنقاذ مناطق لم يعرفوا عنها شيئًا.
ثمة نقطة تاريخية يجب أن نتذكرها: جلبت الدولة التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك، الذي لم يمتلك طيلة حياته هذا القدر من الإمكانات والجنود، جثمان أنور باشا، الذي قاد الجيوش العثمانية وكان تحت إمرته مئات الآلاف من الجنود، من المكان الذي دفن به.
فهل يا ترى يمكن أن نشهد شيئًا كهذا في الوقت الراهن؟ فهل فريق الإسلام السياسي، الذي لديه أحلام كبيرة، يطرق باب الجيش التركي حتى يحمل الجثامين التي تسبب في موتها في سوريا؟