علي بولاج
لو بقيت جماعة الإخوان المسلمين في السلطة في تونس ومصر وانتشرت الحكومات الإسلامية في الدول العربية جميعاً، لكانت ظهرت أزمة بين نخبة الإخوان وسوسيولوجيتها (طبيعتها الاجتماعية) التي لم تتلقَّ تعليماً جاداً. ولو أن “السوسيولوجية الإخوانية” خرجت منتصرة من هذه الأزمة المقدرة لما جاء الإخوان بتطبيقات عملية تختلف عمّا جاء به حزب العدالة والتنمية خلال حكمه في تركيا لأكثر من عقدٍ من الزمان.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن جماعة الإخوان المسلمين في مصر نجحت في الجمع بين جوانب الإسلاموية الثلاثة هذه، إلا أنها لم تصل إلى سدة الحكم في أي بلد حتى يمكن اختبارها عملياً. لذلك لا نعلم مدى حيازتها، باعتبارها فلسفة سياسية، على الخبرة العملية وإمكانية تطوير نموذج حكم إسلامي، كما لا نعرف مواضع الاختلاف ومستوياته بين هذا النموذج والدولة الحديثة.[/box][/one_third]إن الذين أطلقوا الحركة الإسلامية في تركيا عبر تأسيس “حزب النظام الوطني” في 1969 كانت نواياهم خالصة، لكنهم لم يكونوا على علم بفلسفة السياسة” الفقهية” و”الكلامية” في الإسلام بسبب “عهد الفترة والفتور والضمور” الذي جاءت به جمعية الاتحاد والترقي وبعدها حزبُ الشعب الجمهوري، كما لم يكونوا أعملوا الفكر بما فيه الكفاية في الدولة الحديثة وطبيعتها. مع ذلك فإنهم بدؤوا يناضلون للوصول إلى السلطة في ظلّ مواضع الضعف الذي كانت تعانيه الإسلاموية التي انطلقت في النصف الثاني من القرن الـ 19.
وحتى نشرح ما نقصده، من الممكن أن نرجع إلى كلمتي “البدو” و”الحضر” اللتين تناولهما ابن خلدون وحوّلهما إلى مفهومين خاصين بنظريته. فهو يذكر أن البدو المنتمين إلى عصبية معينة يحلّون مع مرور الوقت محلّ الحضريين بفضل دوافعَ تكاد تكون غريزية. وهذا المفهوم الذي وضعه ابن خلدون ينطبق على ثلاث حركات ديموجرافية كبيرة حدثت في تركيا. فهي عاشت ثلاث موجات من الهجرة في الخمسينيات والسبعينيات والتسعينيات بفاصل زمني مدته عشرون عاما. وأنهت الموجة الأولى فترة حكم الحزب الواحد الذي استمر 27 عاما، بينما تسبّبت الثانية في بروز دور الإسلاموية بجوانبها الفكرية والاجتماعية والسياسية، أما الثالثة فقادت حزب الرفاه بزعامة الراحل نجم الدين أربكان إلى نجاح كبير في الانتخابات البلدية عام 1994 وحزبَ العدالة والتنمية المنشقّ عنه إلى سدة الحكم في البلاد عام 2002.
وكان هناك فرق بارز بين الإسلاموية في تركيا والإخوان المسلمين في مصر وهو: أن حسن البنا مؤسس الإخوان كان شخصية ممتازة استطاعت جمْع الأبعاد الثلاثة للإسلاموية في نفسه ومؤلفاته. ولذلك فقد أخرج الإخوان مفكّرين أثروا بعمق في العالم الإسلامي كله من جانب، وكرّس جهوده في المقام الأول لتقوية الجانبين المدني والاجتماعي دون إهمال الاهتمام بالسلطة السياسية من جانب آخر.
أما جوانب الإسلاموية الثلاثة في تركيا فقد فضّل كلٌّ منها العمل بشكل مستقل وفي ساحة مختلفة عن صاحبها. ومع أنه كان بإمكان جانبيها السياسي والاجتماعي تشكيل تحالف بين حزبي السلامة الوطني الإسلامي والشعب الجمهوري العلماني عام 1973، إلا أن هذه الفرصة ضاعت بسبب الكراهية الشديدة التي كانت تكنّها “حركة النور” تجاه كل من الشيوعية والشعب الجمهوري، لدرجة أنها كانت ترضى بـ”الإيداع في السجون بدلاً عن إطلاق سراح الشيوعيين” بمقتضى العفو الذي أعلنته السلطات عام 1974. في حين أن أصحاب الإسلام “الفكري” لم يقبلوا في أي وقت من الأوقات قيادة الإسلام السياسي والاجتماعي.
إن جماعة الإخوان المسلمين في مصر نجحت في الجمع بين جوانب الإسلاموية الثلاثة هذه، إلا أنها لم تصل إلى سدة الحكم في أي بلد حتى يمكن اختبارها عملياً. لذلك لا نعلم مدى حيازتها، باعتبارها فلسفة سياسية، على الخبرة العملية وإمكانية تطوير نموذج حكم إسلامي، كما لا نعرف مواضع الاختلاف ومستوياته بين هذا النموذج والدولة الحديثة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الإخوان المسلمون في البلاد العربية لم يُقدر لهم أن يعيشوا تجربة الإسلامويين في تركيا. فإذا ما نظروا إلى ما أصابنا في الفترة الأخيرة واستخلصوا منه الدروس اللازمة فإنهم سيستفيدون استفادة كبيرة.[/box][/one_third]وهناك موضوع آخر نجهله أيضاً، وهو: ما مدى قدرة ونجاح سيد قطب – رحمه الله – في التمييز والتفريق بين السوسيولوجية الإخوانية والسوسيولوجية العامة عندما صاغ نظرية “المجتمع الجاهلي” التي طرحها وطوّرها في إطارٍ نظريٍّ قويّ.
إن “سوسيولوجية” العالم الإسلامي الذي انضمّ إلى التاريخ الحديث بأساليب فوقية وميكانيكية وديكتاتورية سوسيولوجية بدوية في جوهرها. وليست عصبيتها “للحق والحياة الأخلاقية والحرية الروحانية والعدل”، بل على النقيض، عصبيتها تتمثل في السعي للوصول إلى السلطة وانتزاع “الدولة” من أيدي نخبة السلطة العسكرية والمدنية والاقتصادية الذين يستعمرون الفريق الأول ويمارسون عليه شتى أنواع الضغط والقمع. وهذا النوع من السوسيولوجية تسعى للثراء دون تمييز بين الحلال والحرام، وتتطلع إلى حياة الترف، وتحلم بالعيش في القصور وحيازة السيارات الفاخرة والمباني الشاهقة واليخوت. وإذا ما دفعتم هذة السوسيولوجية “المعلولة” من الناحية الإسلامية إلى الساحة السياسية بمجرد دوافع “الشرعية الديمقراطية وصناديق الاقتراع”، دون إخضاعها لتربية أخلاقية ومعنوية جادة، فإنها سترتكب المظالم نفسها والانتهاكات الأخلاقية ذاتها التي ترتكبها السلطة “الحضرية”. زِدْ على ذلك أنها ستبادر إلى إضفاء الشرعية على كل ممارساتها الجائرة وغير الأخلاقية باسم “الدين والتدين”. ذلك لأن هذه السوسيولوجية التي تتطلع إلى سلطة الحضريين المبنية على عدم الإنصاف والانحلال الأخلاقي والظلم إذا ما أخرجت “زعماء شعبيين وكوادر سياسية” لتمثيلها في الساحة السياسية، ثم خاض هؤلاء السباق والصراع، فإنهم لن يتخذوا شرعيتهم من الأفكار السياسية لمركز اليمين أو مركز اليسار، بل سيتخذون مرجعيتهم من الدين الذي يجهلون جوهره. وما هذا الدين الذي سيتخذونه أساساً لسياساتهم إلا “الإسلام المحرّف من قبلهم”.
الإخوان المسلمون في البلاد العربية لم يُقدر لهم أن يعيشوا تجربة الإسلامويين في تركيا. فإذا ما نظروا إلى ما أصابنا في الفترة الأخيرة واستخلصوا منه الدروس اللازمة فإنهم سيستفيدون استفادة كبيرة.